فرنسا- الجزائر.. احتلال، فحرب فقصة حب!

نصرالدين قاسم*
لم تدم زيارة الرئيس الفرنسي إلى الجزائر سوى ساعتين، لكنها أوقفت ساعة الزمن في الجزائر وأوقفت السير في العاصمة عدة ساعات حرمت الممتحنين من الالتحاق بمراكز امتحانهم، وعطلت المواطنين عن قضاء حوائجهم، وحبست أنفاس الجزائريين، وأثارت غضبهم وحنقهم.
 زيارة “ضيف الجزائر الكبير” رغم قصرها في الزمان، كانت مفعمة بـ “الشوق” السياسي و”البوح” الاقتصادي، و”الشغف” الثقافي ومحادثات “ذات شجون”.. الرئيس الفرنسي لم يذهب من أبواب متفرقة ليعلن دعمه للرئيس بوتفليقة ويطري عليه ويثني على شخصه، مقابل سخاء اقتصادي غير مسبوق حظيت به فرنسا من الاستثمارات في الجزائر واستحواذها على نسبة كبيرة من المعاملات الجزائرية التجارية والاستثمارية في مختلف القطاعات.. وتسهيلات في المنطقة تمكن باريس من تكريس نفوذها وهيمنتها على المنطقة الخالصة لوجهها..
رغم أن ما بين الجزائر وفرنسا من عداوات متجذرة في التاريخ وآلام ومعاناة محفورة في الذاكرة، وجرائم في حق الانسان الجزائري، فقد ظلت فرنسا قريبة من القلب ولو ثقافيا وسياسيا واقتصاديا أيضا.. ولم تشهد العلاقات الاقتصادية بين البلدين ازدهارا ًكبيراً كالذي بلغته في السنوات الأخيرة. لقد أعادت الالة الاقتصادية الفرنسية انتشارها في الجزائر لتسيطر على معظم قطاعات النشاط، وتفوز بحصة الأسد من الاستثمارات والصفقات العمومية من قطاع  المياه إلى الرياضة مرورا بالسيارات والكهرباء والبناء والنقل بمختلف وسائله.
فرانسوا هولاند بشر الجزائريين في زيارته هذه بنية بلاده فتح مصنع لشركة بيجو العملاقة لصناعة السيارات في الجزائر، بعد الذي فتحته شركة رونو قبل أشهر.. لقد بدا الرئيس الفرنسي سعيداً بما حققه في علاقاته مع الجزائر سواء على الصعيد الشخصي لما حظي به من دعم من لدن نظيره الجزائري في مواجهة تصاعد المد اليميني في فرنسا، واستعداد لشد أزره، أو على الصعيد الدولي في مالي وليبيا وتونس ومختلف بؤر النزاع في إفريقيا عموما ودول الساحل على وجه الخصوص، هذا ناهيك عن الأفضلية الاقتصادية التي أضحت تتمتع بها فرنسا في الجزائر فثمة أكثر من 7 آلاف مؤسسة فرنسية تصدر إلى الجزائر و450 منها لها فروع تنشط مباشرة في الجزائر.. وهذا ما دفع الكثير من السياسيين الجزائريين والخبراء وحتى مسؤولين سابقين في الدولة يتحدثون عن تنازلات كبيرة قدمتها الجزائر لفرنسا..
لقد استكملت فرنسا صورة “الشريك الكبير والاستثنائي” للجزائر في وقت راج فيه الحديث عن التمكين للبعد العربي في الاقتصاد الجزائري.. ففي أولى أيامه على “كرسي المرادية” أعلن الرئيس بوتفليقة عزم الجزائر على فسح المجال لرأس المال العربي ومنحه التسهيلات الضرورية للاستثمار في الجزائر. وبموجب ذلك، ورغم المحيط البيروقراطي المعادي، والعقلية الإدارية الطاردة لكل ما هو عربي، ومقاومة اللوبي الفرنسي، اكتسح المصري نجيب ساويرس عالم الهاتف النقال وحقق أرباحا خيالية غير مسبوقة، وفاز المقاولون العرب بمشاريع كثيرة في مجال السكن، وحطت إعمار بكل ثقلها في مشاريع ضخمة، ووضعت شركات الحديد والموانئ القطرية قدمها في هذين القطاعين الحيويين.. لكن سرعان ما بدأ الحلم العربي في الجزائر يتلاشى وتأزمت العلاقات وتشنجت الإرادات وتوقفت المشاريع وتراجعت الإرادة.. وبهدوء تام وفي وقت قياسي قفز الاستثمار الفرنسي بديلا مرحبا به في كل مكان..
وعكس المستثمر العربي الذي ما نفك يشتكي من العراقيل والمثبطات والبيروقراطية، يعترف الفرنسي بالحفاوة التي يحظى بها والتسهيلات التي تقدم له في مختلف الإدارات وعلى كل المستويات، بمجرد أن يُتخذ القرار على اعلى الهيئات.. الإدارة لا تزال وفية لفرنسا ربما لأنها لا تزال تعتبر نفسها امتدادا للإرث الفرنسي في الجزائر، فلا تزال تشتغل بالأدوات نفسها وعلى رأسها اللغة الفرنسية التي لم تتزحزح ولم تتنح رغم سياسات التعريب الشامل، وقرارات تعريب الإدارة والمعاملات والوثائق، ورغم الغرامات التي يسلطها القانون على المخالفين لفرض اللغة العربية..
الفرنسية لا تزال أداة من أدوات السلطة في الجزائر، ولا تزال أداة سياسية لممارسة الحكم في الجزائر وتأشيرة للوصول إلى السلطة والبقاء فيها، ولا يزال محبوها والشغوفون بها يعششون في مختلف دواليب السلطة والإدارات الحيوية والمؤسسات السيادية القوية.. فحتى في أحلك الظروف التي مرت بها العلاقات الجزائرية الفرنسية خاصة في حقبة الرئيس الراحل هواري بومدين، والأزمات التي طبعت علاقات البلدين ظلت الفرنسية هي الحبل السُّري الذي يجمع البلدين ويقربهما كلما باعد بينهما التاريخ أو الخلافات السياسية، على غرار قانون تمجيد الاستعمار الذي اصدرته الجمعية الوطنية الفرنسية، وعدم اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر، ورفضها تسديد الدين الكبير الذي تدين به للجزائر من السنوات التي سبقت الاحتلال او اثناءه وحتى بعده..
 ارتباط الكثير من الجزائريين في السلطة وخارجها بفرنسا، قصة وفاء غريبة قصة حب “عفيف” و”صادق”!، كانت “نهاية سعيدة” غير منطقية لمأساة شعب  عانى ويلات الاحتلال، قصة حب “رهيب” انبلجت من بحر من الدماء وجبال من الشهداء و”نحتتها” سنون الحرب والابادة الجماعية لآلاف الجزائريين، قصة حب غريبة خرجت من رحم “الاستقلال”!   
____________________

*كاتب وصحفي جزائري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه