غصن الزيتون … وماذا بعد؟!

وسط دعم سياسي وشعبي مطلق تواصل القوات المسلحة التركية عملياتها العسكرية في مدينة عفرين شمالي سوريا ، والتي أطلقت عليها أسم ” غصن الزيتون ” ، والتي تهُدف – وفق ما هو مُعلن رسميا – إلى حماية الحدود الجنوبية التركية ، عبر القضاء على العناصر المسلحة من منظمتي حزب العمال الكردستاني ( بى ك ك ) ووحدات حماية الشعب  ( ب ى  د / ي ب ك ) اللتين تسيطران على المنطقة منذ العام 2012 ، وتدمير معسكراتهم ومخابئهم ومخازن الأسلحة والذخيرة التي بحوزتهم ، ومنع محاولة تشكيل ممر تصفه تركيا بالإرهابي هناك ، والعمل على إقامة منطقة آمنه للمدنيين الذين يواجهون أقسى أنواع المعاناة جراء سيطرة تلك العناصر المسلحة بالكامل على هذه المناطق ، الذين يقومون بما يشبه عمليات الإبادة ضد المدنيين هناك بهدف إجراء تغيير ديموغرافي للتركيبة السكانية الخاصة بالمنطقة

الدفاع عن النفس

المسؤولون الاتراك الذين يرون أن  ” غصن الزيتون ” تسير وفق ما هو مخطط لها ،  ومحققة الاهداف المرسومة لها بنجاح باهر ، أكدوا في نفس الوقت أنها عملية عسكرية تتواءم تماما مع كافة مواثيق الأمم المتحدة ذات الصلة بمكافحة الإرهاب ، وأنها تقوم على أساس حق تركيا في الدفاع عن نفسها ، بعد أن أضحت الدولة التركية ” وكأنها تخوض حرب بقاء ضد تنظيمات إرهابية “، وفق تصريح لنائب رئيس الوزراء التركي هاقان جاويش أوغلو ، الذى أكد وقوع ما يقرب من 700 عملية قصف استهدفت مدنا وقرى داخل تركيا انطلاقا من الأراضي السورية ، قامت  بها عناصر تلك التنظيمات مما أسقط قتلى وجرحى من المدنيين .

مسؤولية واشنطن

وبغض النظر عن ضبابية الصورة حول العملية العسكرية فيما يخص الإعلام العربي ، وعدم الموضوعية في تناول التطورات داخل تلك المناطق سواء إيجابا أو سلبا ، فإن حقيقة ما يحدث وما سوف يحدث في هذه المنطقة تحديدا ، تتحمل الولايات المتحدة الامريكية وحدها نتائجه بالكامل ، فهى من سعت لتقديم الدعم العسكري واللوجيستي لتلك التنظيمات الكردية التي تصنفها تركيا كتنظيمات إرهابية ، وهى من سعت إلى اقتطاع أجزاء من سوريا والعراق من أجل تكوين كيان سياسي لهم معترف به دوليا في خضم الصراعات الدائرة على الأرض هناك ، بداية من الحكم الذاتي الذى تم إعلانه عام 2014 ، ومرورا بالفيدرالية التي ناقشتها العناصر المسئولة عن تلك التنظيمات مع وفد برلماني أمريكي زار المنطقة مؤخرا ، وصولا إلى الإعلان الذى كان منتظرا لدولة كردية في شمال سوريا بعد تحويل العناصر المسلحة لتلك المنظمات إلى جيش نظامي معترف به ، وهو ما حذرت أنقرة من خطورته ورفضها له مرارا وتكرارا .

 إلا أن الإدارة الأمريكية كان لها رأى آخر يخالف في مجمله وجهة النظر التركية لم تلق بالا لهذه التحذيرات ، وهوما بدا واضحا في سياستها تجاه تلك التنظيمات وحجم تعاونها معها ، إذ لم تدخر واشنطن جهدا من أجل توفير كافة أنواع الدعم الدبلوماسي والسياسي لهم ، منذ سيطرتهم على مناطق عفرين وعين العرب والجزيرة ، وفى هذا الاطار بدأت واشنطن في تدريبهم وإمدادهم بعتاد حربى بدأ  بأسلحة خفيفة ثم أسلحة ثقيلة بحجة مواجهة تنظيم داعش ، كما عملت على تحسين صورتهم دبلوماسيا ، ونفي فكرة وجود أي علاقات لهم بحزب العمال الكردستاني الذى تواجهه أنقرة عسكريا منذ عام 1984، لتبدأ الولايات المتحدة العمل فعليا على تشكيل قوة عسكرية قوامها 30 ألف عنصر من ميليشيات ” ى ب ك ” تحت مسمى حرس حدود ” والإعلان عن ذلك بشكل رسمي من جانب البيت الابيض ، وهو الإعلان الذى هدف إلى إضفاء صفة المشروعية على تلك التنظيمات المسلحة داخل شمال سوريا . 

مخاوف مشروعة

الأمر الذى أكد مخاوف الدولة التركية من وجود خطر حقيقي يتهددها من الناحية الجنوبية ، بعد أن أيقنت أن واشنطن تعمل على محاصرتها عبر إقامة شريط بطول المنطقة من شرق البحر المتوسط حتى حدود إيران شرقا ، وهى المنطقة التي تعمل واشنطن على اقتطاعها من أراضي كل من سوريا والعراق ، وتجهيزها لتكون قاعدة انطلاق لها للتدخل السريع في شؤون جميع دول المنطقة ، بهدف تدمير أية محاولة تستهدف إحداث تقارب بين الدول الإسلامية ، والتحريض على بث الفرقة بينها وخلق المزيد من الصراعات التي من شأنها ضمان عدم تشكيل أي شراكة إقليمية مستقبلية بين دولها ، خدمة للمصالح الأمريكية والإسرائيلية ، إلى جانب استخدام تلك العناصر في مرحلة لاحقة لتوجيه ضربات للداخل التركي ، لتجد تركيا نفسها في مواجهة دائمة مع تنظيم تعتبره إرهابيا ، يهدد أمنها ويقطع صلتها بالمنطقة ، مما يشغلها عن تطوير علاقاتها بجيرانها أو المشاركة بفاعلية فيما تشهده المنطقة من خلافات وتجاذبات ، وما يتم في الخفاء من مؤامرات لإعادة التقسيم الجغرافي لدولها ، وهو مانوه عنه نائب رئيس الوزراء التركي محمد شيمشك الذى صرح بانه لا يمكننا تشجيع مجموعات عرقية مثلما نشجع نادٍ لكرة القدم ، كما أنه لا يمكن حل مشكلات الشرق الاوسط عبر رسم حدود جديدة له .

توظيف الاكراد

إلهاء تركيا وعرقلة مسيرتها ، وقطع الصلات بينها وبين دول المنطقة ، هو الهدف الذى من أجله تم توظيف الهوية الكردية ، واستغلال الرغبة الجامحة لدى الأكراد لإقامة دولة مستقلة على أسس قومية ، من جانب واشنطن التي سعت لتوظيف الحلم الكردي من أجل تحقيق مصالحها ومصالح حليفتها إسرائيل ، حيث بدأ الاكراد فعليا في التدريب والتسليح كما خاضوا الكثير من المعارك وضحوا بالآلاف من عناصرهم ، بل وأجروا تعديلا ديموغرافيا – وفق بيانات لحلف الناتو – يستند إلى تهجير العرب والتركمان وتفريغ المنطقة تماما لصالح ما أعتقدوه خطأ أولى خطوات تحقيق حلم الدولة الكردية .

 الدعم الأمريكي لتحقيق حلم الاكراد سرعان ما أتضح أنه مجرد سراب ، وبدت حقيقته ظاهرة للعيان ، إذ مع توالى ضربات الجيش التركي ، ضد عناصر كل من ال ” بى ك ك ”  و ” د ب ى “، والذى أخذ الضوء الاخضر بشأنها من موسكو التي تقع المنطقة تحت سيطرتها، لم تبد واشنطن أي رد فعل سياسي أو دبلوماسي ، فعلى الصعيد الدبلوماسي جاء التحرك من جانب فرنسا التي طالبت بعقد جلسة طارئة لمجلس الامن لبحث الملف السوري والتدخل التركي، فيما أكتفت واشنطن بتصريحات لوزير دفاعها جيم ماتيس الذى قال إن لتركيا مخاوف أمنية مشروعة في المنطقة ، وإنهم كانوا على علم مسبق بتلك العملية العسكرية ، فيما أكد وزير الخارجية ريكس تيلرسون أن بلاده تدرك جيدا المخاوف التركية ، وأن علاقات التحالف بين البلدين مستمرة ، بينما أعلنت الناطقة باسم البيت الابيض هيذر ناويرت أنهم يطالبون تركيا بممارسة ضبط النفس ، وأن تُبقى عملياتها محدودة في نطاقها ومدتها ، ودقيقة في أهدافها لتجنب سقوط ضحايا من المدنيين . وهى التصريحات التي تصب في اتجاه واحد مفاده أن الولايات المتحدة حسمت أمرها وانها لن تتخذ موقفا أكثر قوة أو صلابة لحماية الأكراد الذين سلحتهم في عفرين ، والذين اعتقدوا أنها حليفتهم والداعم الرئيس لتحقيق حلم إقامة دولتهم فى تلك المنطقة ، خصوصا بعد التضحيات التي قدموها أثناء الحرب على تنظيم الدولة ، والتغيير الديموغرافي الذى قاموا به من أجل تهيئة الأجواء لإعلان الدولة المستقلة .

التضحية بعفرين

إلا أن الاعتقاد بإن واشنطن تخلت نهائيا عن أكراد سوريا ، يبدو تصورا خاطئا في العموم ، فواشنطن لديها أجندة تعمل جاهدة من أجل تنفيذها ، والأكراد هم وسيلتها المفضلة للقيام بذلك ، ولذلك فإن خسارتهم في هذه المرحلة ليست من مصلحتها في شيء ، ومن هنا يمكننا فهم التصريحات الأمريكية التي أوضحت فيها أن عفرين ليست من مناطق اهتماماتها ، وأنها تهتم بقوات ” ب ى د ” الموجودة شرقي الفرات بدرجة أكبر من تلك الموجودة في عفرين ، ما يعنى أن واشنطن اتخذت قرارها وحددت استراتيجية تعاملها تجاه العملية العسكرية التركية ، وهى استراتيجية ترتكز على التضحية بعفرين حفاظا على صورتها أمام الرأي العام العالمي وعلى ما تبقى من علاقات تربطها بأنقرة .

والدليل على ذلك ، التحذير الذى أصدرته وزارة الدفاع الأمريكية لعناصر وحدات حماية الشعب بعدم استخدام السلاح الأمريكي الذى بحوزتهم في مواجهاتهم مع الجيش التركي ، وبأن هذا السلاح مخصص فقط لمواجهة عناصر تنظيم الدولة ، مهددة بالتوقف عن مدهم بالسلاح إذا ثبت لها مخالفتهم لذلك ، مع التعهد في الوقت نفسه بحماية عناصر ال ” ب ى د ” الموجودين في شرق الفرات ، وكأنها دعوة لتلك العناصر الموجودة في عفرين بتركها والتوجه إلى حيث الحماية والضمانات الأمريكية الجديدة التي تقدمها لهم في شرق الفرات ، تمهيدا للبدء في توحيد جهودهم استعدادا للمرحلة المقبلة .

المؤامرة الصهيو- أمريكية

 المؤامرة الصهيو- أمريكية تلك التي تصر واشنطن على المضي قدما في تنفيذها، مستغلة في ذلك حلم الأكراد، والمخاوف التركية منه، تعنى أن تركيا وإيران وسوريا والعراق معرضون جميعا لتهديدات غير مسبوقة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين ستفعلان كل ما بوسعهما من أجل الوصول لذلك الهدف.  

فهل يدرك الأكراد أن من تخلى عنهم في عفرين اليوم، سيتخلى عنهم وبنفس البساطة غدا في أي منطقة أخرى من مناطق النزاع سواء في سوريا أو العراق؟! وأن الرهان على دعم واشنطن لهم لتحقيق حلم دولتهم المستقلة مجرد وهم واجترار لمراحل تاريخية سابقة وتجارب مؤلمة انتهت كلها بالتخلي عنهم بعد أداء المطلوب منهم، وهل تفطن أنقرة لتلك المصيدة التي تنصبها لها واشنطن بمساعدة إسرائيل بهدف وقف تقدمها والحد من تفوقها، وعرقلة محاولاتها الرامية لاستنساخ نموذج الدولة العثمانية القوية، مستخدمة لتلك المصيدة الأكراد كطعم لها؟!

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه