غريب في بيتي!

كانت تحفظات المجتمع على مسألة الاغتراب وتبعاته قائمة منذ زمن، ولكنها تفاقمت تبعاً لتفاقم السلبيات وفق تسارع إيقاع الحياة ودخول العديد من المستجدات والوقائع.

داليا الياس*

يلاحقني العنوان الشهير للأديب العربي الكبير  “إحسان عبد القدوس”، “غريب في بيتي”، وأنا أتمعن في المشاهد المتلاحقة للعديد من الأسر التي يشملها محيطي، وتعانى من غياب العائل لدواع السفر والاغتراب سعياً لتحقيق حياة كريمة.

ذلك العائل الذى حالما عاد لحضن أهله في إجازة سنوية عارضة أو عاد عودته النهائية ليضع عصا الترحال ويستقر في كنفهم، سيكتشف كم أصبح غريباً عن هذه الوجوه الحبيبة، يستعصى عليه الانغماس في تفاصيلهم اليومية، ويندهش بالتغيرات التي طرأت على سلوكهم وأفكارهم ومشاعرهم في غيابه، فاستحالوا لآخرين لا يعرفهم تمام المعرفة!

ويراوده شعور مرير بالغربة الداخلية، أقسى بكثير من تلك التي أمضاها بعيداً، وهو يلهث وراء أوراق العملات والبنكنوت ويجتهد في تعلية المباني على حساب المعاني …ويكنز النقود على حساب العهود!!

وبالمقابل يستحيل في نظر أسرته لمجرد  ضيف، وربما ضيف ثقيل الظل، يترقبون رحيله بصبر نافد، ويحتملون وجوده على مضض، أملاً في رحيل مرتقب ولا شيء يعينهم على التعايش معه سوى أمواله الغالية وهداياه القيمة، وقدرته السحرية على تحقيق كل الأحلام والمتطلبات التي تجعلهم يعيشون في رفاهية باذخة.

ومع الأخذ في الاعتبار أن اغتراب الآباء كان ولا يزال، وسيظل ضرورة ملحة في مجتمعاتنا العربية طالما ظل واقعنا الاقتصادي المزرى على ما هو عليه، ومع تقديرنا للنماذج الإيجابية التي نجحت في تحقيق الموازنة العسيرة فكان اغترابها فرصة لتحقيق أهدافها الإنسانية النبيلة، واستطاعت في ذات الوقت إحكام السيطرة على واقعها الأسرى الخاص، كما يجب فظل أحدهم حاضراً دائماً برغم الغياب، ولم يسمح للفراغ أبداً بأن يشغل حيز أبوته أو قوامته أو إحساسه بالمسؤولية.

ولكننا نعرض دائماً للسلبيات، وننظر لنصف الكوب الفارغ لنصل لآلية واضحة تضمن لنا لاحقاً امتلاؤه بما يلزم من وعى.

والشاهد أن ضرر الغربة أصبح أكثر من منافعها، وينعكس ذلك على الزوجة والأبناء تحديداً، فبالإضافة لكونهم لم يعودوا يشعرون بالحاجة الماسة للوالد، ولا يفتقدونه في المحافل والملمات والمناسبات، ويصبح وجوده في حياتهم باهتاً وغير فاعل، ويتراجع تبعاً لذلك معدل احترامهم له ورهبتهم منه، فيتذمرون من رغبته في ممارسة دوره الأساسي أحياناً. ذلك الدور الذى ما عاد هو يجيد إتقانه، ولا عادوا هم يصدقونه!

وقد كانت تحفظات المجتمع على مسألة الاغتراب، وتبعاته قائمة منذ زمن، ولكنها تفاقمت تبعاً لتفاقم السلبيات وفق تسارع إيقاع الحياة ودخول العديد من المستجدات والوقائع بسبب العولمة والانفتاح، وتراجع القيم، والمبادئ، وتغير التركيبة الاجتماعية، وتمرد الأبناء المتزايد!

وقد كانت العائلة الممتدة فيما مضى تلعب دوراً بديلاً بارزاً في حالات الاغتراب، فتوفر لأسرة المغترب الرعاية والأمان، ولكن الآن لم يعد لدينا الوقت الكافي لنمارس تلك الأدوار النبيلة،  وحتى الأم التي كانت العامل الرئيسي في الحفاظ على الأسرة وتماسكها ونجاحها وسد الثغرات خلف الأب بكل تضحية واقتدار وتفان، أصبحت معرضة للضياع والانزلاق والتقاعس، ومشحونة بالحنق تجاه الأب المغترب، وتتعامل معه فقط على أنه مجرد(صراف آلي) ولا تحتمل حتى هي وجوده طويلاً وتدخلاته المستمرة في تفاصيل حياتها وحياة أبنائها التي غالباً ما تكون قد تشكلت، وهم قد اعتادوا على غيابه، ورسموا لوحة تخصهم لا مكان فيها لملامح ذلك الأب الذى يلفه ضباب الضياع كونه وجد نفسة غريباً في ذلك البيت الذى غاب يوماً ليؤسسه فعاد ليجده قد تداعى أول ما تداعى على رأسه.

_______________

*كاتبة وصحفية سودانية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه