غرام إسرائيل.. والتطبيع المجاني!

الأنظمة العربية تريد التفرغ لبناء حصون مرحلة جديدة من الاستبداد تتجاوز ما سبقها لتجلس على عروشها.

وتيرة الغرام العربي بإسرائيل، والهرولة نحو التطبيع العلني معها، تزايدت بعد وصول دونالد ترمب لرئاسة أمريكا، وهذا يُفهم في سياقين، الأول: أنه ترجمة لكون دول خليجية تحديداً متحمسة للتعاون مع ترمب، ورأته الخيار الأفضل لها عما لو كانت منافسته هيلاري كلينتون هي الرئيس الآن. هذه الدول هي عرّاب ترمب، وقد ربطت نفسها به، وهذا حتَّم عليها ألا تتعامل مع أجندته جزئياً، أي لا تأخذ منها ما يناسب مصالحها، وتترك ما يتعارض مع  المواقف الوطنية والقومية العربية، إنما مفروض عليها تبني الأجندة كلها، وفي القلب منها إسرائيل، بأن تمد يديها لإسرائيل التي تحظى بمكانة خاصة عند ترمب، والدائرة الضيقة المحيطة به، وعلى رأسها نائبه مايك بنس، وصهره ومستشاره الأقرب جاريد كوشنر، وهما من أكثر العناصر في تاريخ الإدارات الأمريكية حماساً وموالاة لإسرائيل. والسياق الثاني أن ترمب جاء وضمن أهدافه الخارجية التصعيد مع إيران، وتغيير سياسة أوباما بهذا الصدد والتي قامت على أساس الاحتواء لها، وتحسين العلاقات معها، وهذا ساعد في التوصل للاتفاق النووي، وتمشياً مع سياسة ترمب فإن هذه الدول بجانب ضرورة تقاربها مع إسرائيل، وإزالة كل الحواجز معها سواء كانت حقيقية أم شكلية، تجد نفسها تقف مع إسرائيل في خانة واحدة هي العداء لإيران، وفقاً لمعادلة مختلة هنا تقول إن عدو عدوي صديقي. وهذه مرحلة إسرائيل بامتياز، الدولة الوحيدة التي لم تتعرض لأي ارتدادات مؤذية من الكوارث التي يشهدها المحيط الواسع من حولها، وجاءت لها إدارة أمريكية تمنحها ما لم تحصل عليها منذ عقود، ولهذا يكرر نتنياهو بأن هناك تقارباً وتواصلاً غير مسبوق بين بلاده، وبين بلدان عربية يصفها بأنها معتدلة، وهنا لا عجب أن تقرأ على ألسنة نخب موالية لأنظمة الغرام بالأفعى أن إسرائيل لم تقتل أحداً من مواطنينا، بينما إيران وأسلحتها وميليشياتها هي من تهددنا وتقتلنا، وأن القدس تاريخياً لليهود مثلما أن مكة والمدينة للمسلمين، هذه محاولات خانعة مريضة للبحث عن مبررات لجريمة التطبيع، إسرائيل قتلت كثيرين من العرب في حروب عدوانية، واحتلت مساحات شاسعة من أراضيهم، ولا تزال تقتل الشعب الفلسطيني، وتحتل أراضيه، وتدنس مقدسات المسلمين، فهل يكتشف صهاينة العرب فجأة أن إسرائيل حمل وديع، أو حمامة سلام، وأن الممارسات النازية هي محض خيال؟

العرب وإيران

إيران تعتدي على العرب، لكن لا يكون الحل بالاستدارة إلى إسرائيل للتحالف معها ضدها، إسرائيل لن تكون صديقاً للعرب أبداً، ليس من العقل أن ينتقل العرب من شر إيران الذي يُمكن إطفاؤه وإيجاد حلول له، إلى شر إسرائيل الذي لا حل له.

وواشنطن وتل أبيب لن تطلقا رصاصة واحدة على إيران من أجل العرب المتضررين منها، مجرد مواقف سياسية، وتهديد وتصعيد كلامي لا يؤثران كثيراً على السياسة الإيرانية، أما المواجهة المباشرة لو فرضت نفسها فلن تكون للأمريكي، أو الإسرائيلي، إنما للعربي لو أراد خوض حرب، وهي ليست في صالحه مسبقاً، وحالياً هناك حروب بالوكالة، وإيران هي المتفوقة فيها على الأطراف العربية، وتلك الحروب ومجمل الصراع كله الذي تدور رحاه في الساحات العربية هو لمصلحة إسرائيل حيث يُضعف ويُنهك الجميع ويُفجر الفتن والحروب الدينية الطائفية، لتظل هي الوحيدة المحصنة من حمم وقذائف البراكين المشتعلة.

إيران تجني الفوائد!

وفي مثل هذا المناخ المعبأ بدخان التهديدات الأمريكية، والصراخ العربي، تجني إيران الفوائد إذ تستغله بالمضي في تطوير برامجها للتسليح التقليدي، ويتوفر لديها المبرر في أولئك الذين يتربصون بها، وعلى رأسهم أمريكا الشيطان الأكبر، وحليفه الصهيوني، والتوابع من الجيران العرب في الخليج خصوصاً، وتستفيد في تحشيد الجبهة الداخلية المتداعية حول النظام، وقمع أي حركات احتجاجية تطالب ببصيص من الحرية، وتحسين مستوى الحياة، ولهذا أدت الاحتجاجات الأخيرة سريعاً، وهي مظاهرات مطلبية كان يغلب عليها الشق الاقتصادي المعيشي، وبسهولة وجدت من تتهمهم بإشعال المظاهرات من أمريكا وإسرائيل وبريطانيا إلى دول خليجية، وصنفت ما شهدته مدنها بالمؤامرة على ثورتها الإسلامية، ونظامها المقاوم، أما الاتفاق النووي الذي أراد ترمب إلغاءه، ثم تراجع مطالباً الكونغرس بتعديله، فمن يتولى الدفاع عنه هم شركاء أمريكا فيه من دول خمسة زائد واحد، هم يتمسكون به، ولو حدث وأُلغي فسيكون فائدة كبيرة لإيران إذ ستنطلق في تطوير قدراتها النووية، وسيكون اللوم موجهاً للأمريكي الذي تسبب في انهيار اتفاق كان يضمن تعطيل البرنامج النووي وفرض الرقابة الصارمة على المنشآت.

تصفية القضية الفلسطينية

يحدث هذا التماهي العربي مع إسرائيل في ظل إدارة تقدم دعماً لا محدودا للدولة العبرية لإعدام ما تبقى من القضية الفلسطينية، دعم للمعتدي تاريخياً على العرب، وانتقام مضاعف من الفلسطيني والعربي المعتدى عليه تاريخياً أيضاً، لو كان دعماً ماليا وعسكرياً ولوجستياً فهذا معتاد، لكنه هذه المرة ارتفع لمستوى غير مسبوق إذ تنسف إدارة ترمب الحقوق الأساسية التي نصت عليها القوانين الدولية، وقرارات الأمم المتحدة، مثل الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل، وترتيبات نقل السفارة إليها، والأمر صار معلناً ومبرمجاً ومنتهياً أمريكياً، والقرار الثاني المؤثر على الفلسطينيين هو قطع أمريكا مساعداتها لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهذه محاولة لتصفية قضية اللاجئين، وهكذا ستتوالى محاولات تصفية قضايا الحل النهائي حتى لا يبقى شيء منها يتفاوض حوله الفلسطينيون، ولو حصل استسلام منهم سيتم منحهم مسمى دولة بلا معنى ديمغرافي، ولا تواصل أراضي، ولا حدود معروفة، ولا سيادة، ولا القدس عاصمة لها، ولا عودة لاجئين إليها، ولا أي شيء يناضل من أجله الشعب الفلسطيني.

وفي هذا السياق يأتي القرار الأمريكي بوضع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على قائمة الإرهاب بهدف محاصرة المقاومة حتى لو كانت سياسية، ومحاصرة الفلسطينيين في كل منفذ لهم وفي كل شخصية مؤثرة فيهم.

عرب التطبيع.. موافقون أم متورطون؟

هنا إما أن عرب التطبيع سواء الجدد أو القدامى يوافقون إدارة ترمب على قرار القدس، وكل بنود ما تُسمى صفقة القرن التي ستخرج للتنفيذ العلني تباعاً، ما يعني اشتراكهم في تصفية القضية الفلسطينية، أو أنهم تورطوا في دعم هذا الرئيس، واعتقدوا أن تصريحاته مجرد دعاية انتخابية سرعان ما تتغير أو تتجمد بعد فوزه بالرئاسة، هكذا يفعل الرؤساء خلال الانتخابات، لكن يتضح أن ترمب ومن ورائه نائبه بنس صاحب العقل المنهجي المتشدد يختلفون عن السابقين، فهم لا يتلاعبون بناخبيهم، ولا يتخلون عن وعود قطعوها لإسرائيل، هم غلاة التيار المسيحي الصهيوني المؤمن بإسرائيل وأرض الميعاد والحقوق الدينية التلمودية التاريخية لها في كل فلسطين.

العرب عام 2002 كانوا في درجة السوء أفضل من عرب 2018، ربطوا التطبيع بتحقيق السلام عبر مبادرة للسلام تبنوها جميعاً آنذاك، المبادرة ماتت، والعرب يندفعون اليوم للتطبيع قبل تحقيق أي سلام، تطبيع مجاني، يقدمون هدايا سخية لإسرائيل وأمريكا، الرؤية الإسرائيلية أن التطبيع أولاً من جانب دول الاعتدال العربي سيساهم في تسريع تحقيق السلام، إنه السلام على قياس إسرائيل، وليس وفق الثوابت والحقوق المشروعة والتاريخية والقرارات الدولية، سلام يُفرض على الفلسطينيين بضغوط عربية تريد الخلاص من الصداع الفلسطيني فقد صار عبئاً شعبياً عليها ومسؤولية غير قادرة على الوفاء بمتطلباتها.

الأنظمة العربية تريد التفرغ لبناء حصون مرحلة جديدة من الاستبداد تتجاوز ما سبقها لتجلس على عروشها مطمئنة من أن أحداً لم يعد يلوح بالورقة الفلسطينية، وأن إسرائيل طالما اطمأنت على نفسها ونالت كل ما أرادته فإنها وأمريكا ستكون مطالبتين بالحفاظ على وجود دائم لتلك الأنظمة وحمايتها ضد أي هزات مفاجئة أو غير مفاجئة، وزلزال الربيع العربي ليس بعيداً.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه