عندما بكيت

 

المجهول ليس فقط هو كل مالا نراه أو نعايشه، فأسوأ أنواع المجهول هو هذا الذي نعايشه ونراه ولكننا نجهل حقيقته، أو ننخدع فنراه في هيئة مخالفة لواقعه.

منذ أواخر مرحلة الطفولة وأنا مغرم غراما فطريا بقصص الشهامة والفروسية الشعبية (الجدعنة) والبطولات، وكنت أعشق متابعة الموروثات الشعبية التي تؤكد على عناد هذا الشعب واعتزازه بكرامته ورفضه للظلم والعبودية، فتكونت داخلي عقيدة راسخة حصنتني من أي إحباط يصيبني بفعل أي عوامل، وهي أن هذا الوطن يحمل داخله شعباً لا يمكن السيطرة عليه وقيادته إلا بإرادته واختياره، وهو ما جعلني أعتقد أن صبر هذا الشعب على المحن، التي لم تنقطع عنه منذ أن وعيت على الدنيا حتى الآن، نوع من الصمود والقوة.

هل تتصور أيها القارئ أنه رغم الشواهد التي تتناقض مع عقيدتي تجاه هذا الشعب، والتي استلقت مثقلة داخل نفسي، إلا أنها لم تهتز وظلت نفسي تغض النظر عن كل المؤشرات المنطقية التي تهدم عقيدتي المبالغ فيها بفعل عناد شخصي داخلي، أو خوف من إدراك واقع مختلف يضعني في مرتبة المغفل، وهي المرتبة التي أكرهها بشدة رغم التصاقها بشخصيتي طوال الوقت.

تمر عشرات السنين وأنا محيط نفسي بسياج من الحماس المبني على عقيدتي الراسخة حول هذا الشعب وأنا أتحمل أي ثمن مقابل موقفي هذا، ولكن مهما طال الزمن فالواقع لا بد أن يفرض نفسه عليك ويصفعك في لحظة لتدرك ما كنت غافلا عنه سنوات طويلة، حتى لو أدركتك صفعة الواقع قبل انتهاء رحلتك الدنيوية بلحظات.

  • من الهرطقة للواقع

دعونا ننتقل من هذه الهرطقات النظرية إلى بعض المشاهد الواقعية لعلنا نجد ما يفسر كلماتي المرتبكة هذه.

خلال الأسبوعين الماضيين كنت مستغرقاً في التفاعل مع أحداث الانتخابات الرئاسية المصرية، ورغم قناعتي الشديدة بأن مصر تقع تحت إدارة حكم عسكري استبدادي فاشي إلا أن فكرة الدفع بمرشح منافس للجنرال القابع على كرسي الحكم استهوتني للحظات، ليس للتنافس على الحكم، فالحكم العسكري لا يزول بالديمقراطية، وإنما اعتقادا مني أن لحظة التنافس هذه قد تؤدي إلى حراك في الشارع يكسر حالة الجمود والاستكانة التي يعيشها المصريون، وخاصة بعد عام 2011.

الكل يعلم ما آلت إليه الأمور من استبعاد وحبس وانسحاب كل المرشحين أمام الجنرال، إلا أنني أتوقف عند لحظة كانت فارقة لدي، وهو الصراع والاختلاف الذي ظهر حول المرشح المدني خالد علي، رغم أنه كان المرشح المدني الوحيد، والذي بحكم المنطق يجب أن يجذب كل القوى المدنية المعارضة، ولكنه قوبل بمعارضة ليست قليلة من كثير من فرق المعارضة في مصر، جزء منه كان له مبرراته التي أرفضها ولكنها تحمل مسحة منطقية لا بأس بها تجعلنا نتفهمها، مثل رفض بعض المجموعات له لأنه كان مؤيداً لانقلاب 30 يونيه الذي أطاح بحكم الرئيس المنتخب محمد مرسي عبر بحور الدم، ولن أتوقف عند هؤلاء كثيرا رغم اندهاشي من ميلهم لتأييد حاكم عسكري مرة أخرى؟ ولكن المجموعة الأكبر والأخطر من الرافضين للرجل هم هؤلاء الذين أعلنوا رفضهم له لعدم اقتناعهم بأن رجلا بسيطا من الشعب يمشي في الأسواق ويأكل الطعام يمكن أن ينافس على الرئاسة، وأن المنافسة يجب أن تكون بين شخصيات ذات أُبهة وسند قوة وهو ما دفعهم وهم الرافضون للحكم العسكري إلى الالتفاف حول الفريق سامي عنان الذي أعلن ترشحه قبل اعتقاله، باعتباره القادر الوحيد على المنافسة، وأن أي فرد من الشعب لا يمتلك هذه التحصينات ليس من حقه الترشح أو المنافسة على الحكم، وهو إقرار ضمني أيضا بأن الشعب لا يرضى إلا بحاكم يمتلك قوة الردع وليس عدل الحكم!!!، وفي مناقشة طريفة بيني وبين أحدهم سألته عن التناقض في موقفه الذي جعله يؤيد ترشح الفريق «عنان» رغم رفضه لحكم العسكر، وتجنب تأييد المرشح المدني، فقوبلت بأعجب إجابة، ولكنها للأسف كانت الإجابة المعبرة عن رأي الأغلبية من الرافضين عندما قال وهو يشير بيده وكأنه يمسك شيئا قيما «عايزين رئيس كده هيبه وقوي إنما خالد ده تلاقيه زى أي واحد من الناس كده معقولة ده يبقى رئيس جمهورية، لكن عنان كان رئيس أركان ومركز كده»، وأشار بفمه بعلامات استحسان وكأنه مقبل على التهام ديك رومي بالمكسرات.

  • الفاشي الضرورة

توقفت عند هذا الموقف متأملا ليس دقائق ولا ساعات وإنما أياما اصطدمت فيها بصراع دائر داخلي عشرات السنين ويبدو أنها كانت اللحظة الملائمة لصفعة الواقع كي أدرك ما لم أكن أدركه، تقريبا عشت داخل نفسي أيام أسترجع أحداثا من الماضي، أحداثا عايشتها وأحداثا قرأتها، تذكرت عندما مات جمال عبد الناصر وخرج الشعب المصري يصرخ في الشارع ليس حزنا وإنما خوفا، فلقد نجح الرجل في أن يفرض شخصه على المصريين ليس كحاكم عادل، وإنما باعتباره ضرورة يرتبط وجودهم به وبهيمنته العسكرية فألغي شخصياتهم أمام وجوده، ولهذا كان من الطبيعي عندما يرحل أن يشعروا بالخوف والضياع حتى يتلقفهم فاشي آخر ليثني رقابهم في حقواه ، ولن يجد معناه في ذلك فغالبا هم يرضون بهذا الدور طواعية حتى إنهم في كثير من اللحظات يبحثون عن الفاشي ليحكمهم بحجة الأمن والأمان، وكأنهم قطيع لا يشعر بالأمان إلا في ظل وجود الراعي الذي يحمل العصا.

ومن قبل ذلك قام الشعب بثورة ضد الخديوي توفيق ونصب العسكري أحمد عرابي قائداً لها، وما أن سقط عرابي سقطت ثورة الشعب وكأنها كانت ثورة شخص عرابي.

  • التحصن بالفاشية

وإذا عدنا إلى قبل ذلك بسنوات بعيدة قبل الميلاد تشير البرديات إلى شكوى الفلاح الفصيح خن أنوب الذي سرقه مشرف الأرض فذهب للحاكم ليس ثائرا وإنما باكيا، وأخذ ينظم كلمات الشكوى في فصاحة وذل ومهانة حتى أنصفه الحاكم لفصاحته وليس من أجل الحق أو لأنه ثائر على الظلم، ولو لم يكن الفلاح خن أنوب فصيحا ذليلا لما حصل على حقه وربما قتله الحاكم، وتم تداول هذه البردية كدليل للمصريين على أن أسهل طريقة للحصول على الحقوق هو الذل والخنوع وتعظيم الحاكم باعتباره ظل الإله، ولا يجادلني أحد قائلا: إن هذا كان وقت الفراعنة، فجميعنا يعلم الأشعار والعبارات التي قيلت في «السيسي» باعتباره هبة سماوية، حتى عندما تولى حكم مصر رئيس مدني بالانتخاب من بين الشعب تولي الرئاسة وهو يحمل داخله نفس المرض الضارب في جذور هذا الشعب، ولا عجب فهو واحد منهم فلم يحصن نفسه بالشعب واتخذ من الفاشية العسكرية درعا تقليديا لحمايته، ونسي الرجل أنه ليس واحداً منهم فأطاحوا به وبالثورة وبأي أمل في حكم مدني، وعادوا واستلقوا في ثقل على صدر الشعب!

وتوقف المشهد الأخير في تأملاتي الطويلة عند حوار كتبه الراحل صلاح عبد الصبور في مسرحيته «الأميرة تنتظر» خاطب خلاله الأميرة التي كانت ترمز لمصر الواقعة في عشق الفرد وتحت إرادته، فقال: «يا امرأة وأميرة… كوني سيدة وأميرة… لا تثني ركبتك النورانية في استخذاء في حِقوَى رجل من طين أياً ما كان… وغداً أو شهماً، عملاقاً أو أفَاقاً»… فبكيت ليس تأثرا بالكلمات ولكن من غفلتي فقد حملت هذه الكلمات وغيرها سنوات طويلة دون أن أدرك معناها الحقيقي مثل الحمار الذي يحمل أسفارا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه