عمر لطفي الذي أسس 4 كيانات عشقها المصريون ، أشهرها النادي الأهلي

 

 

نبدأ بتصحيح أو ضبط بعض المعلومات التاريخية الشائعة على سبيل الخطأ أو الخلط ، حيث يحدث الخلط بين عمر لطفي رائد التعاون وأستاذ القانون ، وبين عمر لطفي الذي كان من رجال الخديو توفيق وكان محافظاً للإسكندرية وعادى الحركة الوطنية في اثناء الثورة الرابعة ، وهو أحد المتورطين في مذبحة الإسكندرية الشهيرة 11 يونيو 1882، التي قتل فيها 50 من الأوربيين و250 من المصريين، وقد استقر رأي الأدبيات الوطنية على أن الخديو توفيق كان متورّطاً في هذه المذبحة من خلال عمر لطفي محافظ الإسكندرية ، وقد أصبحت هذه الحادثة هي مُبرّر هجوم الجيش البريطاني على مصر.

هناك عدد آخر من الأعلام يحملون اسم عمر لطفي ومنهم مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة، وقد علمت من أساتذتنا الدكتور أحمد أبوزيد والدكتور مصطفى العبادي أن شارع عمر لطفي الشهير في منطقة كليوباترا سمي تخليدا لهذا الدبلوماسي المصري.

تكوينه العلمي والقانوني

ولد الزعيم الوطني عمر بك لطفي في الإسكندرية 1867 وترجع أصوله إلى المغرب، إلى حد أن كبير هذه الاسرة (أو والده هو نفسه) كان مُمثل المغرب لدى مصر قبل أن تُعرف الدبلوماسية بالنمط التقليدي.

وقد تلقى عمر بك لطفي تعليمه في مدرسة الجمعية الخيرية في الإسكندرية، وهي المدرسة التي أسّسها الأستاذ الشيخ عبد الله النديم، ثم انتقل إلى القاهرة فدرس في مدرسة الفرير، وهكذا جمع بين التعليم المدني والتعليم الفرنسي، والتحق بعد هذا بمدرسة الحقوق فتخرّج في سن مبكرة (في التاسعة عشرة من عمره حسب أوراقه) في 1886.

فيما بين القانونيين الاقتصاديين، فإن عمر لطفي هو رائد الخط الموازي لطلعت حرب في دراسة القانون ثم في ممارسة الاقتصاد، وعلى حين ان العمر لم يمتد بعمر بك لطفي، فإنه وضع بصمات مهمة ومؤثرة كأب مؤسس للحركة التعاونية في مصر، على نحو ما نجح زميله طلعت حرب في أن يكون أباً للحركة المصرفية في مصر، وباختصار شديد فإنه إذا كان لتعامل السياسة والقانون مع حركة الأموال وتوظيفها منطلقان اجتماعي واقتصادي، فإن عمر لطفي هو رائد المنطلق الاجتماعي وطلعت حرب هو رائد المنطلق الاقتصادي.

نال عمر بك لطفي شهرة مبكرة لتفوُّقه في المحاماة، بعد أن بدأ العمل الحكومي في مكتب قضايا الحكومة الذي كان العمل فيه بمثابة دليل على التفوُّق والصلاحية للوظائف القانونية والعامة على حد سواء.

وقد آثر عمر بك لطفي أن يترك العمل الوظيفي ويُمارس المحاماة من خلال مكتب سعد زغلول باشا، ثم وقع عليه الاختيار ليعمل بالقضاء، فأصبح قاضياً في محكمة قنا، لكنه سرعان ما انتقل ليعمل بالتدريس في كلية الحقوق، وارتفع شأنه في الأستاذية وأصبح وكيل كلية الحقوق، ومارس تدريس القانون الجنائي والإجراءات الجنائية، ودام عمله وكيلاً لكلية الحقوق 16 عاماً متصلة.

هكذا جمع عمر بك لطفي ما لم يجمعه غيره من التلمذة المباشرة (والمتفاعلة) لثلاثة من الأقطاب لم يجمع أحد فضلهم على نحو ما جمعه هو:

  • لسعد زغلول (في مكتبه الخاص بالمحاماة).
  • لعبد الله النديم (في المدرسة) التي أسسها الشيخ عبد الله النديم وفيها حفظ عمر لطفي القرآن الكريم
  • لصديقه الذي يصغُره في السن مصطفى كامل باشا (في الحزب الوطني).
دوره البارز في الحياة العامة و السياسية

خرج عمر بك لطفي إلى الحياة العامة بأربعة أفكار لامعة حقّق فيهما أقصى ما كان يُمكنه من النجاح في جيله وفي سنه.

 أما الفكرة الأولى  التي أخلص لها عمر بك لطفي ، فهي فكرة التعاون، بمعناه الاصطلاحي ، وما يستتبعه من مؤسسات وأدبيات و توجه مجتمعي ،  وما يتصل بتطبيقات هذه الفكرة (أو تجلياتها العملية) من إنشاء نقابات (أو جمعيات ) التعاون وتنظيم و نشر الحركة التعاونية، وقد دفع عمر لطفي إلى أن يبذل جهده في هذا الميدان شعور نبيل تمثل في تعاطفه مع الفلاح المصري  وما عاناه من جراء  الأزمة الاقتصادية التي جرت في 1907 وما أدت إليه تلك الأزمة من انتشار نشاط المرابين والمضاربين ، وقد درس عمر بك لطفي التجربة الإيطالية في التعاون الزراعي بتوسع ، واقتنع بضرورة الأخذ بما أخدت به ألمانيا وإيطاليا من إنشاء النقابات (الجمعيات) الزراعية التي تتولى مساعدة الفلاحين ، و بدأ يعرض رأيه ، لكن الحكومات القائمة لم توافق على فكرته ، ومن ثم تحوّل بنشاطه إلى الميدان العام ، و بدأ ينشئ ما اختار أن يسميه باسم جميل هو “النقابات الزراعية” لتتولي الإقراض والتسويق التعاوني للحاصلات.

وانتشرت الفكرة التي سماها بالتعاون المنزلي، وامتد نشاط هذه الفكرة إلى الإسكندرية والمنصورة والمنيا والمنوفية وحلوان بفضل جهوده في هذا الميدان المهم. وفي هذه الفترة توطّدت علاقته بالزعيم مصطفى كامل باشا فكان كلاهما مؤيداً للآخر في مسعاه، وهكذا أصبح عمر بك لطفي أيضا من قادة الحزب الوطني البارزين.

الفكرة الثانية هي فكرة العمل النقابي بالمعنى الواسع للنقابة، فقد ارتبط بنشاط عمر لطفي في الحركة التعاونية نشاط آخر كان طبيعياً أن يخوضه، وهو نشاط النقابات العمالية، فكان هو أول مؤسس لأول نقابة عمالية، وهي نقابة عمال المصانع اليدوية، التي تطوّر نشاطها فيما بعد وشاركت في الحركة الوطنية وثورة 1919 مشاركة فاعلة وبارزة.

فكرة نادي المدارس العليا

وعمر بك لطفي ثالثا هو صاحب فكرة نادي المدارس العليا الذي يُماثل ما عُرف بعد ذلك في بريطانيا والمستعمرات البريطانية تحت اسم مؤتمر الخريجين أو نادي الخريجين، وقد انتخب رئيسا لهذا النادي الذي كان له دور كبير في الحركة الوطنية فيما قبل الحرب العالمية الأولى.

وقد بدأ عمر بك لطفي ومصطفى كامل باشا خطوات إنشاء نادي المدارس العليا في أكتوبر سنة 1905، وبعد أن تم جمع رأس المال اللازم لبناء النادي، انعقدت أول جمعية تأسيسية لنادي طلبة المدارس العليا في يوم الجمعة 8 ديسمبر 1905 بإحدى قاعات مدرسة الطب لانتخاب مجلس إدارة النادي وكانت نتيجة الانتخاب هي اختيار عمر لطفي بك رئيسا للنادي. وفي يوم الافتتاح ألقى عمر لطفي بك خطبة شهيرة .

وقد أعجب الناس جميعا بالنادي ونظامه، وخلال ثلاثة أعوام فقط تضاعف عدد أعضاء النادي. كما أصبح بمثابة مركز العقل   الذي تجمع حوله أبطال الحركة الوطنية، بل كانت تخرج المظاهرات منطلقة من مقر النادي ضد الاحتلال الإنجليزي عند أي حادث وطني، وهكذا كون عمر بك لطفي ما يمكن تسميته في تاريخ الحركات الوطنية ببؤرة النشاط الفاعل، ومركز الالتقاء الثابت، ومحطة الانطلاق المتجدد.

وليس هذا في تاريخ أية حركة وطنية بالأمر اليسير.

فكرة  النادي الأهلي

أما الفكرة الرابعة التي أصبحت الآن تفوق الأفكار الثلاثة السابقة جاذبية وأثراً وجماهيرية ، فهي فكرة إنشاء النادي الأهلي ، وقد راودته هذه الفكرة من خلال موقعه في رئاسة نادي المدارس العليا إذ أنه كان من الطبيعي ان يتحول النادي الاجتماعي إلى أب لنادي رياضي (على نحو ما هو معروف الآن في مصر بالعكس من تحوُّل الأندية الرياضية إلى أندية اجتماعية)، وكان الهدف هو إيجاد مكان يضم الشباب بعد تخرجهم لتمضية أوقات الفراغ ، وحتى لا يمضي كل منهم إلي قريته ، و ينقطع النادي عن الاتصال بهم عند حاجة الوطن لهم لمواجهة الإنجليز ، و هكذا كانت فكرة إنشاء النادي الأهلي فكرة يتمثل فيها الباعث الوطني  في المقام الأول  .

 وقد كان عمر لطفي من الذكاء ونكران الذات، بحيث عمل على إسناد رئاسة النادي الأهلي في أول عهده إلى ميشيل أنس، وبقي ومعه عدد من قادة الحركة الوطنية يرعون الفكرة ويطورونها، حتى أصبحت هي ذلك الكيان الضخم العظيم.

عبد الخالق ثروت باشا يسجل فضل عمر بك لطفي بذكاء وحب :

تحدث السياسي الكبير عبد الخالق ثروت باشا رئيس النادي الأهلي، ورئيس الوزراء في نهاية أعمال إحدى الجمعيات العمومية للنادي الأهلي بما يمكن وصفه بأنه قصيدة رثاء ومديح في عمر لطفي بك، وذلك حيث استطرد ثروت باشا فقال:

” الآن وقد انتهينا من أعمال الجمعية العمومية، فإني أنتهز هذه الفرصة لألقى على حضراتكم كلمة عن تاريخ هذا النادي؛ فإن تفضلتم وسمحتم بذلك فإن أول ما ينطق به لساني في هذا الحديث هو اسم المرحوم عمر لطفي بك، ذلك لأنه الواضع لهذا النادي وصاحب الفكرة في تأسيسه. كان المرحوم عمر بك لطفي وكيلاً لمدرسة الحقوق، وكنت في ذلك العهد موظفًا بوزارة الحقانية، فكنت معه بحكم وظيفتينا في علاقة مستمرة، وكان رحمه الله على ما تعلمون كثير الاشتغال بأمور الشبيبة عظيم الاهتمام بأحوالهم وبكل ما يعود عليهم بالفائدة “.

” حضر ذات يوم وقال لي إنه كثيرًا ما فكر في أحوال طلبة المدارس العالية وكيفية تمضيتهم لأوقات فراغهم، وفى علاقات خريجيها بعضهم ببعض، فرأى أن بعضًا من الطلبة يقضون أوقاتهم في المحال العمومية ليس لهم من أنواع الرياضة غير الجلوس في المقاهي، وأن البعض الآخر وهو من يرى الترفع عن ذلك يعتكف في منزله، وأن الطلبة بمجرد إتمام دراستهم واشتغالهم بأمور معاشهم إذا ما تفرقوا في البلاد وبعدوا عن القاهرة انقطعت بينهم أسباب الألفة وأصبحوا غرباء بعضهم عن بعض”.

 “شكا إلى تلك الحال وما يترتب عليها من المضار الأدبية والمادية، وقال إنه يرى خير دواء لها تأسيس فناء في نقطة صحية خارج المدينة تكون منتدى لطلبة المدارس العليا ومتخرجيها يقضون فيه أوقات فراغهم ويتمرنون فيه على الألعاب الرياضية. ويكون للطلبة الذين قضى عليهم جهاد الحياة أن يكونوا خارج القاهرة واسطة في الاجتماع بإخوانهم المقيمين فيها كلما سنحت لهم فرصة العودة إليها.”

“لم أتردد لحظة في الحكم بأن تحقيق هذه الفكرة هو خير ما نخدم به الشبيبة المصرية، ولكني لا أخفى عليكم أن أملى في نجاح المشروع كان أقل بكثير من تخوفي من عدم إمكان تنفيذه، أو من سقوط النادي بعد تأسيسه، وعذري في هذا التخوف أني جربت في حكمي هذا على قياس الحاضر بالغابر، والمستقبل بالماضي، فكم من مشروعات وطنية قامت بضجة عظيمة وأقبل عليها الناس أيما إقبال، لكنها ما لبثت أن أخذت في التلاشي والفناء حتى أصبحت أثرًا بعد عين.”

”  ولم أرد مع ذلك أن أثبط همته بمخاوفي هذه وقلت في نفسي لعل في هذه الحركة بركة، واتفقنا على العمل فسعى رحمه الله حثيثًا حتى وفق في تشكيل نقابة أخذت على عاتقها دفع المال لتأسيس النادي وقد تأسس بالفعل.»

شهادة الأستاذ فكري أباظة

وقد عقب رجل النادي الأهلي الكبير الأستاذ فكري باشا أباظة على حديث رئيس النادي عبد الخالق ثروت باشا بقوله:

“بصفتي الشخصية أشكر معالي الوزير الخطير على تصريحاته العظيمة ونصائحه الثمينة وأشكره على أحياء ذكرى المربي العام المرحوم عمر لطفي بك، الذي فكر في إنشاء هذا النادي ونادى المدارس العليا، نشكره من كل قلوبنا وندعو الله أن يوفق كبراءنا وعظماءنا إلى المشروعات النافعة. “

قيمته الفكرية

نأتي إلى الأهم من هذا كله، وهو قيمة عمربك لطفي كمفكر وكمؤثر.

ونبدأ بلمحة طريفة وهي أن مجلة ” الإثنين والدنيا ” أجرت استفتاء عن أعظم عشرة رجال في تاريخ مصر في خمسين سنة، وكان المؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعي المعروف بتعصبه للحزب الوطني من بين من استطلعت المجلة رأيهم، وقد اختار أستاذنا الرافعي عمر بك لطفي ليكون في الترتيب التاسع بعد مصطفى كامل ومحمد فريد والشيخ محمد عبده وسعد زغلول وعلي مبارك والشيخ عبد الله النديم والشاعر أحمد شوقي والشاعر حافظ إبراهيم وقبل العاشر طلعت حرب.

 ومن الإنصاف أن نُشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن عمر بك لطفي كان واحداً من الذين عرّفوا العالم الغربي مُبكّراً بالفكر القانوني الإسلامي فقد كتب بالفرنسية دراسات تعريفية مهمة نقل عنها الغربيون وانتفعوا بها، وطوّرت فكرهم التشريعي والقانوني قبل أن تأتي عصور الترصد بالإسلاميين، وقبل أن تأتي عصور التوظيف الإمبريالي للمعرفة البشرية التي اكتسبتها البشرية من عقيدة ربانية.

وعلى سبيل المثال، فقد كان عمر لطفي قبل قاسم أمين وطلعت حرب أول من تناول حقوق المرأة في الإسلام في محاضرة عامة، وأوضح فيها حقوق المرأة في الشريعة الإسلامية وقارن بينها وبين حقوق المرأة الغربية في ذاك الوقت، وكيف أن الجنس اللطيف، كما كانوا يسمونه، وجد من الشريعة الإسلامية حماية لم يجدها في القوانين القائمة في الوقـت نفسه.

 وقد ألقى عمر بك لطفي هذه المحاضرة باللغة الفرنسية عام 1896

وتًسجل المراجع والفهارس له كتابات مُبكّرة لا بد من أن يقوم أولو العلم بجمعها وإخراجها ونشرها في مجموعة الاعمال الكاملة:

ــ الدعوى الجنائية في الشريعة الإسلامية.

ــ حركة المساكين.

ــ حق المرأة.

ــ حق الدفاع.

ــ الامتيازات الأجنبية.

ــ الوجيز في شرح القانون الجزائي.

هذا فضلاً عن كتابه الأشهر الذي كان بمثابة دستور مبكر لعمل الحركات التعاونية:

 «شركات التعاون في مصر»

وفاته المبكرة

كان من مجريات التاريخ وأحكام القدر أن عمر لطفي توفي في الرابعة والأربعين من عمره في 14 نوفمبر 1911، فلم يشهد ثورة 1919 وكان وضعه في هذا شبيهاً باثنين من نُظرائه من أعلام الفكر القانوني الذين توفوا مبكرين ولم يشهدوا الثورة:

ــ قاسم امين (1863 ـ 1908)

ــ أحمد فتحي زغلول (1863 ـ 1914)

وقد لحق هؤلاء بمن هو أكثر حضورا منهم في تاريخنا الوطني وهو أبرز الزعماء المفكرين الذين توفوا في شبابهم وهو مصطفى كامل (1874 ـ 1908)

من الجدير بالذكر في هذا المقام أن هؤلاء توالت وفياتهم على النحو التالي:

  • ــ مصطفى كامل          10 فبراير 1908     عن 34 عامــاً
  • ــ قاسم أمين                23 أبريل 1908       عن 45 عاماً
  • ــ عمر لطفي              14 نوفمبر 1911     عن 44 عامـاً
  • ــ أحمد فتحي زغلول    27 مارس 1914      عن 51 عامـاً
قصيدة أحمد شوقي في رثاء عمر لطفي

وهذه هي قصيدة أحمد شوقي في رثاء عمر لطفي عند وفاته، وفيها يُظهر أمير الشعراء حسرته من أن تكون الأرض مثوى لهذا القمر الساطع الذي لمع في سماء مصر، وهو يطلب من مُستمعي قصيدته في رثاء عمر لطفي أن يسألوا أرض القبر هل تزيّنت بما يليق باستقبالها لعمر لطفي؟، وهل استعدّت حفرتها لتكون له بمثابة الجنان؟ وهل قام حارس الجنة رضوان ليَلقى عمر لطفي بما يستحقُّ من ثواب الله على نقائه وبرّه بوطنه.

قِفوا بالقبــور نُسائِــــلْ عُمَـــرْ / متى كانت الأَرضُ مَثْوَى القمـرْ؟

سلوا الأَرضَ: هل زُيِّنَتْ للعليـ / ــم؟ وهل أرجتْ كالجنان الحفر؟

وهل قام رضوانُ من خلفهـــــا / يلاقــي الرضيَّ النقيَّ الأبـــــرّ؟

فلـــو علِمَ الجمعُ مِمَّنْ مَضَــــى / تنَحَّى له الجمــعُ حتــــى عَبـــر

إلى جَنَّـــــة ٍ خُلِقَتْ للكريــــــــم / ومَن عَرَفَ الله، أَو مَنْ قَــــــدَر

برغمِ القلـــــوبِ وحبَّاتهــــــــــا / ورَغْمِ السماعِ، ورَغْمِ البصـــر

نزولكَ في التربِ زينَ الشبـــابِ / سنـــاءَ النَّدِيِّ سَنَـــى المؤتمـر

ويتحدث أمير الشعراء أحمد شوقي عن مناقب عمر بك لطفي المتعددة حديثا مكلوما، لكنه مع المه بافتقاده تمكن من أن ينظم صفاته الحميدة بطريقة سلسة كأنها حبات اللؤلؤ مشيدا بتسامحه وعطفه وتوجيهه وسمو خلفه وعلو تجاربه وألمعيته وإنجازاته وفضله في التوجيه والتعليم والقيادة والقدوة: 

مُقيلَ الصديقِ إذا ما هَفـــــــا / مُقيلَ الكريمِ إذا ما عثـــــر

حَيِيتَ فكنتَ فخارَ الحيــــــاة ِ / ومتَّ فكنتَ فخارَ السيـــر

عجيبٌ رَداكَ، وأَعجبُ منـــه / حياتُك في طولها والقِصَر

فما قبلها سمعَ العالمون / ولا علموا مصحفاً يختضــــــر

وقد يَقتلُ المرءَ همُّ الحياة ِ / وشغلُ الفؤادِ، وكـــدُّ الفِكـــر

دفنَّا التجاربَ في حفــــرة ٍ / إليها انتهى بك طولُ السَّفـر

فكم ذلك كالنَّجم من رحلـة ٍ / رأَى البدوُ آثارَهَا والحَضَـر

نِقاباتُك الغُرُّ تَبكي عليـــــك / ويبكي عليك النديُّ الأغــر

ويبكي فريقٌ تحيـــرتـــه / شَريفَ المَرامِ، شَريفَ الوَطَر

ويبكي الألى أنتَ علمتهمْ / وأَنت غرسْتَ، فكانوا الثمـــر

حَياتُك كانَتْ عِظاتٍ لهم / وموتُك بالأَمسِ إحدى العِبَــــر

سَهِرنا قُبَيْلَ الرَّدى ليلـة ً / وما دارَ ذكرُ الرَّدى في السمر

فقمتَ إلى حفرة هُيِّئَـــتْ / وقمتُ إلى مثلِــــــها تُحْتَفَـــــر

مددتُ إليك يداً للــــوداع / ومدَّ يداً للقاءِ القــــــــــــــــدر

ولو أَنّ لي علمَ ما في غـدٍ / خَبَأْتُك في مُقْلتِي مِن حــــذَر

وقالوا: شكوتَ، فما راعني / وما أولُ النارِ إلا شــــــرر

ولهذا كله، فإن الشاعر أحمد شوقي يعترف بأن رثاءه لعمر بك لطفي علمه ارتجال الدرر بسبب ما خبره بسبب وفاته من ارتجال الدموع!:

رثيتُك لا مالكاً خاطـــــري / من الحزن، إلا يسيراً خطــــر

ففيك عرفتُ ارتجالَ الدموعِ / ومنك علمتُ ارتجالَ الـــدُّرر

ومثلُك يُرثَــى بآيِ الكتابِ / ومثلُك يُفدَى بنصف البشــــــــر

فيا قبرُ، كنْ روضة ً من رضى / عليه، وكنْ باقة ً من زهر

سقتك الدموعُ، فإن لم يدمنَ / كعادتهنّ سقاك المطــــــــــــر

ومن الجدير بالذكر أن عمر لطفي الذي مات في الرابعة والأربعين لم يُدرك الباشوية، ولهذا فإنه يُمكن التفرقة بينه وبين عمر لطفي محافظ الإسكندرية الذي تعتبره الحركة الوطنية خائناً لها وللوطن وللثورة العربية، بأنه هو البك، على حين أن محافظ الإسكندرية هو الباشا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه