عسكرة المجتمع ما بين نكهة السياسة ونكهة البيادة

فرق شكلي بين الحكم العسكري فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والحكم العسكري الآن، فالأول حكم عسكري بنكهة السياسة، والثاني حكم عسكري بنكهة “البيادة”.

خطأ شائع يتعلق بمفهوم عسكرة المجتمع، إذ يتصور البعض أنه مجرد السيطرة على مفاصل الدولة بشخصيات عسكرية، إلا أن العسكرة فى جوهرها الأكثر خطورة تتعلق بالقضاء على مضمون الحكم المدنى ومفاهيمه المرتبطة بفطرة الإنسان، وتحول قواعد وقوانين العسكرية من أدوات داخل المجتمع المدنى إلى مجتمع فى ذاته يهيمن ويسيطر على المجتمع المدنى نفسه.

 لهذا فلا عجب أن الحكام العسكريين يتركز عداؤهم وأزمتهم بوضوح مع ثلاث مؤسسات، وكانوا يسعون حثيثًا طوال الوقت للسيطرة عليها، إما بالترغيب أو الترهيب، وهى المؤسسة الدينية، ومؤسسة القضاء، ومؤسسة الإعلام، وهي مؤسسات بطبيعتها تتعارض مع منطق الحكم العسكرى الذى يركز كل السلطات في يد قيادات لا تمتلك من الأدوات سوى الأمر والطاعة.

بعد الحرب العالمية الثانية

ربما اختلفت أشكال الحكم العسكري فى مصر بعد الحرب العالمية الثانية باختلاف الظروف المحيطة، وهو ما أدى إلى حالة من الالتباس والارتباك فى تحديد موقف واضح من الحكم العسكري، بعد أن فرضت فترات زمنية بعض الضرورات والمبررات للحكم العسكري، مثلما حدث فى الخمسينيات من القرن الماضي، حيث فرضت حالة الصعود والنمو في حركات التحرر والاستقلال عن الاستعمار درجة من الاحتياج للحكم العسكري، أصبح فيما بعد ذريعة بلا منطق لاستمرار الحكم العسكرى في مصر، وهذا ما يفسر بوضوح إصرار حكام مصر منذ 1952 حتى الآن على تبرير وجودهم استندادًا إلى ضرورات استثنائية مثل المخاطر الخارجية أو الأطماع أو المؤامرات أو الأمن والآمان.

وكما قلت هناك فروق شكلية أو نكهات مختلفة للحكم العسكري لا تتعلق بجوهرها الموحد الثابت، فمثلا هناك فرق شكلي بين الحكم العسكري فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والحكم العسكري الآن، فالأول حكم عسكري بنكهة السياسة، والثاني حكم عسكري بنكهة “البيادة”، ولا أقصد بكلمة البيادة سخرية أو استهانة، بقدر ما هو نوع من الترميز إلى العسكرية الخالصة البعيدة كل البعد عن المنطق والفهم والسياسة، وغالبا ما يتميز قادة هذه المرحلة بالجهل والحماقة السياسية.

كتاب عبد الملك

في عام 1974 صدر عن دار الطليعة فى بيروت كتابٌ للمفكر الماركسي أنور عبد الملك عنوانه “مصر.. مجتمع يبنيه العسكريون”. أثار الكتاب لغطًا شديدًا فى الأوساط السياسية، ورغم أن “عبد الملك” كان يعيش فى باريس مضطرًا بعد الحملات الأمنية على التنظيمات الشيوعية عقب حركة الضباط عام 1952، إلا أنه كان عرضة لانتقاد الكثير من اليساريين فى موقفه من النظام المصري.. ما علينا .. أهم ما جاء فى كتاب “أنور عبد الملك” هو الانتقاد الذى وجهه لجوهر الحكم العسكري فى  ثلاث نقاط.. افتقاده للأيدولوجية، وهو ما جعله يقترف أخطاء كلفت مصر زمنًا كان يمكنها أن تنجز فيه المزيد.. وزيف وعته فكرة القومية العربية، وأن النظام العسكرى دفع مصر دفعا إليها، وأكذوبة أنه نظام اشتراكي، ووصفه بأنه رأسمالية دولة تشكلت نتيجة الظرف الدولي والوضعية التاريخية للرأسمالية المصرية كرأسمالية نشأت في ظل الاستعمار.

الخطورة فى هذا التفنيد أنه كشف زيف النكهة السياسية التى غلفت الحكم العسكري فى هذه الفترة، والتى استندت على الدعاية بالشعارات الاشتراكية والقومية العربية، رغم أنه يفتقر فى الأساس إلى أي أيدولوجية، وأن القومية العربية كانت مجرد شعار فارغ المحتوى.

وكما ذكرت فى مقدمة المقال فإن التناقض الرئيسى بين الحكم العسكري كان مع المؤسسة الدينية ومؤسسة القضاء ومؤسسة الإعلام، وهى مؤسسات بطبيعتها مدنية، وكما ذكرت أيضا فإن النظام العسكري حاول تدجين هذه المؤسسات بالترغيب تارة وبالترهيب تارات أخرى.. ربما نجح فى استقطاب رموز من كل مؤسسة أصبحوا موالين للسلطة العسكرية، ولكن هذا لم يمنع الصدام الدائم بين هذه المؤسسات والنظام العسكري.

عبد الناصر والأزهر

سعى عبد الناصر منذ بدء حكمه إلى استخدام الأزهر كوسيلة لدمج الفكر الإسلامى مع الفكر الاشتراكى، خاصة فى ظل بدء المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين، ونجح فى الهيمنة بقدر كبير على مؤسسة الأزهر، وأصدر تعليماته بتطوير مناهج الأزهر، وأجبر الأزهر على إصدار فتوى بقبول المسلمين الشيعة والعلويين والدروز في صلب الإسلام، وكان الأزهر يعتبرهم زنادقة، وبصرف النظر عن صحة هذه الفتوى من عدم صحتها، إلا أن الشاهد أن هناك تدخلا سياسيا فى صميم عمل الازهر كمؤسسة دينية.

ولكن لم يستطع النظام السياسي الهيمنة بشكل كامل على مؤسسة الأزهر لوضعها حدودًا وسقفا لعلاقة المؤسسة الدينية بالحاكم، وأحد شواهد هذا المعنى تجلت فى رفض شيخ الأزهر محمد الخضر حسين طلباً لجمال عبد الناصر لإصدار فتوى باعتبار جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية وخوارج، وتقدم باستقالته.

ومابين حكم العسكر بنكهة السياسة وحكم العسكر بنكهة البيادة، ظلت الأزمة بين الحكم العسكري والمؤسسة الدينية مع اختلاف طبيعتها باختلاف نكهات الحكم.

فرغم حالة التدجين التى شهدتها مؤسسة الأزهر خلال عشرات السنوات الماضية، إلا أن التناقض بينها وبين النظام العسكري، قفز على السطح عندما حاول النظام العسكري التدخل فى الثوابت الدينية، ودفع الأزهر لإصدار فتاوى تتعارض مع صحيح الدين، ومنها عدم الاعتداد بالطلاق الشفهي، وهو ما أدى إلى الأزمة الأخيرة بين المؤسسة العسكرية ومؤسسة الأزهر، وهو ما يحدث طوال الحكم العسكري، مع فارق طبيعة الموضوعات طبقا لنكهة الحكم العسكرى ونسبة غبائه. 

وما حدث مع الأزهر حدث مع مؤسسة الإعلام، حيث سعت المؤسسة العسكرية فى الستينيات لاستقطاب الإعلاميين، وتحويلهم إلى ناطقين بلسان النظام، وربما نجحوا بنسبة كبيرة نتيجة مساندة الدولة لحركات الاستقلال والتناقض مع الإمبريالية والصهيونية، إلا أن الصدام المتوقع حدث بين الصحفيين والدولة، خاصة بعد نكسة 1967 وتكشف زيف وضعف وفساد النظام، وتم اضطهاد الكثير من الإعلاميين والزج ببعضهم فى السجون، وهو نفس ما يحدث الآن مع اختلاف طبيعة الصراع باختلاف نكهات الحكم العسكر ما بين نكهة السياسة ونكهة البيادة التى لا تمتلك أى خلفية سياسية، ولو على سبيل الستر والغطاء، وواجه النظام العسكرى الجماعة الصحفية فى أغشم وأغبى معركة فى تاريخ الجماعة الصحفية، انتهت بالاستيلاء على نقابة الصحفيين، ومفاصل المؤسسات الإعلامية، ومطاردة الصحفيين المختلفين مع الدولة، واضطهادهم، وتحولت معظم المؤسسات الصحفية إلى مكاتب إعلامية للنظام العسكرى بنكهة البيادة!!

العسكر والصحافة والقضاء

ونفس ما حدث مع مؤسسة الأزهر والجماعة الصحفية، حدث مع مؤسسة القضاء، والتى بطبيعتها رقيبة على السلطة التنفيذية، وهو ما يتعارض مع طبيعة الحكم العسكرى الذى يعتبر نفسه فوق السلطات، وسعى الحكم العسكري في الستينيات إلى اختراق مؤسسة القضاء وإدخال القضاة ضمن المعادلة السياسية، من خلال تكوين جماعات سرية من القضاة، إلا أن الصدام وقع مع القضاة الذين نمسكوا بدورهم كمؤسسة مستقلة عن السلطة التنفيذية، وهو ما انتهى إلى مذبحة القضاة عام 1969، والتخلص من أكثر من مائتين من قضاة مصر بعزلهم بالمخالفة للقانون.

وهو ما يحدث اليوم مع مؤسسة القضاة التي تم تقويضها بذهب المعز والامتيازات والمغريات، ثم الانقضاض عليها تماما بوضع قانون جديد يقيد من صلاحيات السلطة القضائية، والتى تتعارض بطبيعتها مع الحكم العسكري.

أما عن السلطة التشريعية الممثلة فى المجالس النيابية، فقد ظلت طوال الوقت منذعام 1952 أداة طيعة فى يد النظام العسكري، إلا من بعض النواب الذين خرجوا عن السياق فى بعض الفترات التاريخية.

وإذا كانت الثوابت السياسية تضع السلطة التنفيذية تحت رقابة السلطتين التشريعية والقضائية، فإن الأمر يختلف عند جلوس العسكر على مقاعد السلطة التنفيذية، فهم يرون بحكم النشأة العسكرية أن لا سلطات تعلوا فوق سلطاتهم، والشاهد أن جوهر الحكم العسكر يتعارض طوال الوقت مع ثوابت الحكم المدني مع اختلاف الأشكال طبقا للمتغيرات الزمنية، وطبقا لنكهة الحكم العسكري ما بين نكهة السياسة ونكهة البيادة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه