“عرب ترمب” والجانب الصحيح من التاريخ

أمريكا لا تحمي حاكماً ولا نظاماً ولا بلداً، وتجربة الربيع العربي لا تزال حيّة، الشعوب هي من تحمي حكامها.

 الفرعون لا ينبت هكذا، هو بحاجة لمن يجعله فرعونَا، وهم الذين يقفون معه، ويطيعونه عن إيمانٍ به، أو رهبةٍ منه، أو يسكتون عنه تجنباً لغضبه وشروره، ولو وُجد من يقف له بالمرصاد ما صار جبّاراً في الأرض، والقصة القرآنية تتحدث عن فرعون وموسى عليه السلام باستفاضة كبيرة، وهي لا تستهدف فرعونَ ذلك الزمان فقط، بل كل فرعونَ سيأتي بعده، ليست قصة ظرفية مرتبطة بشخص محدّد تنتهي بنهاية هذا الشخص، إنما هي قصة للعالمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك يقول المفسّرون في عدم تحديد من هو هذا الفرعون إن الأساس ليس الاسم والشخص بقدر الفعل والعمل، وإن كل من يسير على الطريق نفسه هو فرعون في المكان والزمان والمجال الذي يطغى فيه.

عنجهي

فرعون العالم اليوم ولمدة أربع سنوات، أو أقل أو أكثر، هو الرئيس الأمريكي ترمب، مغرور، عُنجُهي، غوغائي، متوحّش، مُتصهين، “عصبجي” أيضاً، يتفرعن على الفلسطينيين والعرب على وجه الخصوص، هم المطية له، وهذا ما لم يفعله أي رئيس أمريكي سابق بهذا القدر من الصفاقة والاستخفاف بهم، رغم أن عدداً من الأنظمة يقدم له من التأييد السياسي والمال والصفقات ما لم يحلم به، وما لم يحصل عليه كل أسلافه، وما لم يقدمه له أحدٌ غيرهم في العالم، هل العرب باعتبارهم فراعنة في بلدانهم، وعلى شعوبهم، لديهم حنين إلى فرعون أكبر منهم يكونون في خدمته وطاعته، ووجدوا ضالتهم في ترمب؟

يريد الرئيس المهووس أن يُخضع العالم كله لإرادته مغتراً بالقوة الهائلة لبلاده، لا يفعل أحد شيئاً إلا ما يريده هو، ولا يرى أحد شيئاً إلا ما يراه هو، يجهل أن أعتى الإمبراطوريات جاء لها وقت وزالت، وآخرها – وليس الأخيرة – الامبراطورية السوفييتية، والقوى الكبرى في أزمانها لم تنفرد وحدها بالأرض، كان هناك دوماً من يرفض الخضوع لها حتى لو كان أضعف منها عشرات المرات، وهناك من كان يتجنب المواجهة، لكنه لا يتجاوب مع الإذعان، إنما الطامة في بلاد العرب الذين هزم أجدادهم إمبراطوريتين عظميَين في وقتهما: الفرس والروم، وبنوا إمبراطوريات حكمت أجزاء واسعة من العالم، يوجد اليوم من أحفادهم من يخضع لـ ترامب طائعاً مختاراً راضياً مرضياً، هذا الصنف من الأنظمة والحكام هو من يصنع الفرعون الأمريكي الحالي، ويجعله يتوعّد ويهدّد. كيف يكون – وهو الأسوأ الذي أفرزته الديمقراطية الأمريكية بين الرؤساء حتى اليوم – هو المفضل عند فريق من العرب يدافعون عنه حتى صباح يوم التصويت في الأمم المتحدة على قرار القدس المحتلة، ويتطوعون لتسهيل تنفيذ سياساته وأجنداته، وهي تحمل العداء والاحتقار الصريح لهم قبل غيرهم من العرب والمسلمين؟

لا شيء

وهو يختتم عامه الأوّل في البيت الأبيض، ماذا قدم للعرب المتحلقين حوله مقابل ما يأخذه منهم؟، لا شيء، إنما أشعل أزمة في الخليج، وصبّ مزيداً من الزيت على نار الأزمة المشتعلة بين عواصم عربية وبين إيران بدل أن يكون إطفائياً، وإذا كانت عواصم تماهت معه للدرجة القصوى ليقوم بعبء استهداف إيران وتقليص تمددها ونفوذها وتهديدها لهم ولو بالحرب فإن وزير دفاعه جيمس ماتيس قال حاسماً منذ أيام إننا لن نلجأ لعمل عسكري أبداً ضد إيران، عملنا سيكون دبلوماسياً فقط، فما هو رأي تلك العواصم الآن؟، ولماذا كان هذا الاندفاع نحوه وفتح الخزائن له بلا حساب وعلى حساب حاجة الشعوب؟.

 ترمب لم يعبأ بحلفائه العرب، وضرب بهم عرض الحائط، وأصدر أخطر قرار يتعلق بوجودهم وتاريخهم ومقدساتهم وأرضهم وكينونتهم، وهو الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل، لم ينتهِ بعد من إحصاء المليارات التي أخذها، والأخرى التي لا تزال تتدفق عليه منهم فيتخذ هذا القرار المهين لهم إلا إذا كانت الأقاويل بشأن أن بعض العواصم لا تمانع فيما فعله صحيحة، وهذه ستكون من عجائب آخر زمان الهوان العربي، ثم استخدم الفيتو ضد مشروع قرار مصري مدعوم عربياً في مجلس الأمن بعدم قانونية تغيير الأوضاع القائمة في القدس، وهنا يجب إجلاء الأمر بشأن مشروع القرار الأول الذي كان يمنع أمريكا من التصويت، وبالتالي يقطع الطريق عليها في استخدام الفيتو، والنص المعدل الذي أتاح لها التصويت، وأسقطته بالفيتو، هل الأوروبيون طلبوا فعلاً هذا التعديل لعدم التعقيد مع واشنطن؟، أم كانوا خبثاء؟، أم أن الموضوع كله تمثيلية متفق عليها لرفع بعض الخجل عن وجوه الأنظمة المتماهية مع ترمب كما يروج كثير من الكلام على مواقع التواصل؟.

البلاغ

وقد استبق الطلب المقدم من اليمن وتركيا للجمعية العامة لإدانة قراره بتهديد لم يسبق أن حصل في تاريخ الأمم المتحدة، ولا من أي رئيس أمريكي، أو أي رئيس آخر في العالم، حيث أكّد أنه سيقطع الأموال التي يقدمها للبلدان التي تقف مع القرار، وسفيرته في الأمم المتحدة نيكي هيلي قالت إنها ستبلغ ترمب بأسماء الدول التي ستدعم مشروع القرار، هيلي بكل وقاحة وجهت رسالة تخويف لسفراء عدد من الدول الأعضاء، ونظن أن العرب على رأسهم، تقول لهم فيها إن الرئيس سيراقب هذا التصويت بشكل دقيق، وطلب أن أبلغه عن البلدان التي ستصوت ضده، وسنسجل كل تصويت حول هذه القضية.

هذه تصرّفات لا تصدر عن عقلاء يمثلون الدولة الكبرى في العالم، إنما تصرّفات تفتقد للمسؤولية، والحسّ السياسي، واللياقة والاحترام في التعامل مع الدول، إنه سلوك العصابة، والاستعراض الفجّ للعضلات، والتهديد بالعقوبات، يتعامل هؤلاء مع الـ 193 دولة الأعضاء كأنها ولايات أمريكية، أو جمهوريات موز، حيث كانت واشنطن تتعامل مع دول أمريكا اللاتينية باستهانة قبل أن تتوجه للديمقراطية، أو تتعامل مع الدول المستقلة وكأنها تخضع للوصاية الأمريكية.

العرب أو بعضهم على استعداد أن يخضعوا للشروط الأمريكية، ولو كانوا خذلوا القدس في التصويت بأي شكل لصارت مصيبة المصائب، وساعتها لن يكون هؤلاء عرباً أبداً، سيكونون فاقدين لصفات عربية أصيلة باتت مثل الجينات منها الرجولة والشجاعة والفروسية والشرف، لكنهم أيدوا القرار، وهذه بادرة مطمئنة، خصوصاً من فريق ترامب حتى لو كان صوتهم خافتاً بلا تصريحات، ولا إعلان موقف بقوة، كما يفعل الأتراك، وتصدروا المشهد.

فيتنام لقّنت أمريكا درساً في حرب طويلة مدمرة، واضطرت للخروج تجرّ أذيال الخيبة، رغم الجرائم التي ارتكبتها، وكوبا خضعت لحصار طويل، ولم تتراجع حتى أعاد أوباما العلاقات معها بعد أكثر من نصف قرن، ثم رجع بها ترمب إلى نقطة الصفر مرة أخرى نكاية في أوباما وهي “عقدته”، وكوريا الشمالية تقاوم وتقلب الآية وتهدد أمريكا بصواريخها طويلة المدى، وإيران خضعت لعقوبات أمريكية طويلة، وعقوبات دولية، وصمدت ثم فرضت شروطاً لها في الاتفاق النووي وتقاومها لليوم، وفي أفغانستان والعراق اللتين غزتهما، فإنها لم تهنأ بالبقاء فيهما آمنة، ولم تحقّق الاستقرار، ولا الديمقراطية والرفاهية لشعبيهما، بل حوّلت البلدين إلى ساحات للدماء والدمار.

القوة المدمرة

القوة الأمريكيّة مدمّرة فعلاً، لكنها لا تدمر الشعوب التي تمتلك روح المقاومة والتمسك بالحق، ونحن لا ندعو للعداء مع أمريكا، ولا افتعال الأزمات معها، بل الخروج من حالة التبعية، وأن يكون التعامل باستقلالية وفق السيادة والاحترام المتبادل، وتعزيز العلاقات في إطار المصالح المشتركة، وأن تكون العلاقة في اتجاهين، وليس في اتجاه واحد من واشنطن إلى عواصم العرب فقط.

لا دولة ولا منطقة جغرافية في العالم تلين مع ترمب مثلما يلين العرب المعروف عنهم شدّة البأس، ومجابهة الصحاري ومخاطرها، فماذا جرى لهم؟

أمريكا لا تحمي حاكماً ولا نظاماً ولا بلداً، وتجربة الربيع العربي لا تزال حيّة، الشعوب هي من تحمي حكامها وأنظمتها وأوطانها بالحرية والعدالة، فهل يكون مسار ترامب العدواني مع العرب وقضاياهم ومع قدسهم وفلسطينهم ومع الإسلام والمسلمين بداية لتهدئة الاندفاع المحموم نحوه والعودة للجانب الصحيح من التاريخ؟ هذا ما نتمناه لأمة عظيمة لا يليق بها أن تصطف وراء هذا الكائن.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه