عجبت لمن لم يجد قوت يومه!

في كثير من المواضع التاريخية يتأكد أن المصريين يثورون على الحاكم الذي يتسبب في تجويعهم وإرباك حياتهم المستقرة.

«عجبت لمن لم يجد قوت يومه ولم يخرج شاهرا سيفه» هي مقولة مشهورة سواء نُسبت لـ«علي بن أبي طالب» أو لـ«أبو ذر الغفاري»، فأنا عجبت لعجب قائلها، فقد قالها من قالها وهو معاصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قاد ضمن رسالته للبشرية أول ثورة اجتماعية في البلاد، قال مقولته في مجتمع يشهد صعودا ثوريا وعقائديا، ولكني ألتمس له العذر فقد كان القائل، سواء كان «علي» أو «أبو ذر»، قلقا قلق الغيرة على الدين والعدل والمساواة، ولا عجب فـ«أبو ذر» عاش لا يمتلك إلا ثوبا واحدا خشية امتلاك ثوبين وأحد البشر عاريا لا يمتلك ثوبا حتى لو كان لا يعرفه!، و«علي» هو من قال « ما شبع غني إلا بما جاع به فقير».

ما علينا؛ ولكن لماذا تعجبي من تعجب قائل هذه المقولة؟ طبيعي أن أقف مندهشاً أمام مقولاته هذه وأنا مستقبل صباحي بخبر عن طفلة تعرضت للتعذيب من قبل أشخاص اشتروها من أهلها بسبب الفقر. طبيعي أن أقف مندهشا أمام مقولة الرجل وأنا أتابع أحداثا متقاربة عن أخبار شباب وشابات ورجال ونساء يقتلون أنفسهم بوسائل بشعة مثل إلقاء أنفسهم على قضبان المترو تحت ضغط الحاجة، وقد أضلتهم الظروف القاسية حتى عن حبهم الفطري للحياة وتعاليم أديانهم التي تنهيهم عن قتل النفس.
طبيعي أن أقف مندهشا أمام مقولته وأنا أرى رجلا يفر من ذويه وأهله وبنيه ويختفي ليسير هائما في فراغ دنيوي وقد أصابته حالة من الجنون والدروشة بسبب ضيق ذات اليد والعجز عن الوفاء بالتزاماته الطبيعية تجاه من يعولهم!
طبيعي أن تستوقفني عبارة «أبو ذر» وأنا أرى أطفالا يهيمون في الشوارع بلا مأوي ولا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل ولا يعرفون أهل أو أصل!
طبيعي أن أتعجب من مقولة هذا الزاهد عندما أرى أناسا يتسللون في الليل ليبحثوا عن طعام أو قطعة ملابس تقيهم البرد في صفائح قمامة أثرياء توحشوا بفعل زيادة الثروة ففقدوا إنسانيتهم ونسوا الله!

إلا أنه من الظلم أن أركز تعجبي على الرجل الذي دعا لثورة على الفقر والظلم، وأغض البصر عن هؤلاء الذين أتحدث عنهم وقد تجاوزت مآسيهم حدود قوت اليوم إلى حدود البقاء ولا يشهرون سيوفهم أو حتى يتذمرون!!! وهذا عكس مسيرة التاريخ ومنطقه الحتمي.

التاريخ يؤيد

من ضمن الأمور أيضا التي أتعجب لها هؤلاء الذين ينظرون إلى الجوع والفقر والمرض نظرة تعالٍ ويعتبرون أن من يثورون من أجلهم هم من التافهين، وأن الثورة الحقيقة ينبغي أن تكون من أجل تطبيق عقيدة أو فكرة أو دين، وهؤلاء يفصلون فصلا تعسفيا بين الحرية والعدالة الاجتماعية من جهة والثورة من أجل لقمة العيش من جهة أخرى!!!

خرج الشعب الفرنسي في ثورة على النظام الملكي مطالبا بالخبز والحرية، وسبقه في ذلك شعب مصر في أول ثورة للجوعى في عهد بيبي الثاني عندما خارج ثائرا على ملكه الذي يمثل السلطة الإلهية، مدفوعا بضغوط الجوع والظلم والجبروت العسكري الذي فرضه بيبي الثاني على الشعب مستندا على انتصاراته العسكرية التي جعلته قابعا على كرس الحكم أكثر من 90 عاما، وجاء في بردية إيبوير أكدت رفض الشعب وعود الحاكم والملك المتحدث باسم الإله، ورفض عسل الكلام وثار ثورته الكبرى التي أنهت حكم ملك حكم بالبطش 96 عاما، كما جاء في بردية إبوير التي وصفت معاناة شعب مصر التي انتهت بثورة الخدم على الأسياد.

المصري كان ينظر للملك على أنه نصف إله، وكان منصب الملك والحاكم مقدسا لدى المصريين، وهذا يشير إلى أن اقتناع المصريين في ذلك الوقت بالثورة على الظلم كان أقوى من تقدسيهم للملك بما له من مكانة دينية وقوة سماوية، وهذا المعنى يتأكد أيضا في بردية الفلاح الفصيح الذي دفعه ظلم أحد رجالات الحكومة له إلى التظلم لدى سيد المنطقة، وكان المصري لأسباب إلهية وعقائدية لا يمكن أن يقف منتصبا أمام السيد والتحدث، إلا أن الظلم والقهر جعله يضرب بهذه الموانع العقائدية عرض الحائط ويتحدث للسيد معاتبا بل مهاجماً قائلا:

«تُرى… لماذا لا تسمع منذ الاعتداء على والتمساح ينتصر

متى تتعلم من ذلك؟ لا تكن متكبرا بسبب قوتك حتى لا تصل إلى الشر

لقد عينت لتسمع الشكوى، ولكي تفصل بالحق بين المتخاصمين ولكي تطارد اللصوص

لكن انظر، ما تفعل أنت ملاذ اللص

المرء يثق بك لتكون سداً للفقير يحميه من الغرق»

كلمات الفلاح هزت السيد الذي يحكم مندوبا عن الإله فأنصفه كما تقول البردية ولم يرد في البردية أنه نهره مهددا متوعدا قائلا: «من أنت» كما فعل الفرعون الأخير؟

الخبز أولا

عندما قامت الثورة الفرنسية في القرن الـ18 كانت مرتكنة على أفكار العديد من الفلاسفة أمثال جان جاك روسو ومؤلفه عن العقد الاجتماعي وفولتير، وتجمعت كل هذه الفلسفات والأفكار في مواجهة تحالف الطبقة الحاكمة والأرستقراطية ورجال الدين.
 ورغم ذلك وضع التاريخ حركة الشعب الفرنسي المدفوعة بالقهر السياسي والفقر والجوع في مقدمه الأسباب للثورة التي أطاحت بالنظام الملكي، وكانت لحظة الالتقاء الرائع بين المفكرين والفلاسفة والأفكار التنويرية ومصالح الشعب الذي حركه الظلم والجوع والفقر والضرائب الباهظة والتفاوت الطبقي المبالغ فيه.
هذه أمر جعل الشعب الفرنسي يخرج شاهرا السيف والمقصلة في وجه من سلبوه حق الحياة وسلبوه حريته مدعوما بالصفوة التي سارت في ركبه ولم تقوده هي في ركب الأفكار المطلقة المنفصلة عن الواقع، جذب الشعب الفرنسي المفكرين والنخب والفلاسفة وسار بهم في طريق التغير الثوري، ولم يقع في شرك الأفكار والفلسفة المجردة، مثلما يحدث الآن في بلادنا من تفاوت وتناقض بين النخب والفئات الشعبية التي تعاني من الظلم والفساد والاستبداد مما خلق فجوة شكلت مساحة أمان كبيرة للنظام الفاشي الحاكم.

المصريون والثورة

والحقيقة أنه في كثير من المواضع التاريخية يتأكد أن المصريين يثورون على الحاكم الذي يتسبب في تجويعهم وإرباك حياتهم المستقرة.

ففي عهد بطليموس الثالث ركز كل موارده على حربه مع سوريا، مما أدى إلى انهيار الاقتصاد بشكل غير مسبوق وتضاعفت الضرائب وانتشر الجوع والمرض، وكان بطليموس الثالث ذكيا به مسحة من الذكاء السياسي ميزته عن باقي الحكام العسكريين فجلب القمح من الخارج ومن سوريا، وتنازل هو وكبار موظفيه وكهنته عن جزء كبير من دخلهم ولم يطلب من شعبه أن يأكل وجبة واحدة ولم يصفه بأنه «شعب فقير قوي”

وبعد الفتح الإسلامي لمصر، لم يدفع الدين الجديد المصريين في طريق التواكل والصبر السلبي بل على العكس كان الناس يعلنون احتجاجهم من داخل مسجد عمر بن العاص، كما حدث سنة 338 هـ في عهد أبو القاسم وأتوجور بن الإخشيد فثارت عليه الرعية ومنعوه من صلاة العشاء في الجامع العتيق.

وفي عام 343 هـ ثار الناس على الدولة الإخشيدية بسبب الغلاء وكسروا منبر الجامع بمصر القديمة.

وفي عام 352هـ في عهد علي بن الإخشيد شهدت البلاد ارتفاع أسعار كبير استمر لسنوات فدخل الناس الجامع العتيق بالفسطاط في يوم جمعة محتجين حتى أنهم أوقفوا صلاة الجمعة.

وفي عهد الدولة الأموية لم يهتم المصريون بالمكانة الروحية لأميرهم عبد الله بن عبد الملك فثاروا عليه مدفوعين بالأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار وهاجموا قصره وطردوه من مصر ليفر إلى الشام.

وفي يناير (كانون الثاني) 1977 خرجت فئات عديدة من الشعب المصري في أول انتفاضة شعبية بعد حركة ضباط يوليه 1952 محتجين على قرارات ارتفاع الأسعار والتميز الطبقي السائد في هذه الفترة مرددين هتافات: «هما بيلبسوا آخر موضة واحنا بنسكن سبعة في أوضة»، «يا مجلس شعب صباح الخير ياللي رئيسك مليونير»، حتى اضطر أنور السادات رئيس الدولة في هذه الفترة إلى إلغاء هذه القرارات.

أين من قال هذه المقولة اليوم ليزداد تعجبه عندما يرى أزمانا فيها شعوب فقدت قوت يومها وحقها في الحياة الكريمة وقُتل أبناؤها وسجنوا واستبيحت حياتهم الخاصة وشردوا داخل أوطانهم وخارجها ولم يخرجوا شاهرين سيوفهم أو حتى كلمة حق في وجه حاكم جائر.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه