عبير الفقيه تكتب: صحفي إسباني كاد أن يكون ” ريجيني” آخر

عبير الفقيه*
ذكرنا به، فحكايته المعروفة يمكن أن تشرح جانباً من قصة الباحث الايطالي “ريجيني” وربما تفسر ملابسات ما جرى له.

 إنه “ريكارد غونثالا”، الصحفي الإسباني الذي عمل مراسلاً  لجريدة “الباييس” الإسبانية في مصر، والذي تلقّى في شهر يونيو/ حزيران الماضي أمرًا بمغادرة البلاد في وقت وجيز على أثر تنبيه رسمي، وجّهته وزارة الخارجية الإسبانية الى المؤسسة الإعلامية التي يعمل بها واكتفت بأنّها علمت من مصادرها الخاصّة باحتمال حدوث مكروه للشّاب وأنّها لا تتحمّل أيّ مسؤوليّة في حال حصوله.

إلى الآن يجهل الصحفي السبب المباشر الذي جعل منه هدفًا لأي طرف خارج عن القانون سوى ما كان ينشره كبقية الصّحفيّين الأجانب بشأن الوضع السياسي في مصر. ورغم انّه انتقل إلى تغطية ما يجري في تونس، إلا أنّ مقتل الشاب الإيطالي “جوليو ريجيني” حاز على اهتمامه مؤخراً بالشكل الذي عالجه في عدد من مقالاته.

   القصة بدأت في صيف 2015 ورجح الصحفي الإسباني نفسه -خلال مشاركته في برنامج “بلا حدود”- أن تكون لهجة المقالات التي نشرها على هامش زيارة “المشير” عبدالفتاح السيسي، كما يحرص أن يسمّيه دائما، إلى إسبانيا هي السبب الوحيد المُحتمل الذي يجعله في دائرة انتباه نظام الرّقابة في مصر.

على مضضٍ، غادر “ريكارد” القاهرة بسرعة فائقة تاركا وراءه قضايا سياسية و اجتماعية شائكة سعى للتّخصّص في دراستها سنواتٍ، وزملاء و أصدقاء أقام بينهم منذ 2011 في القاهرة، و تحديدا في منطقة “الدقي”. صُدفةٌ جعلت العديد ممّن يعرفونه يذكرونه من جديد عند مقتل “ريجيني” الذي كان يقيم في نفس الحيّ ويشبهه في نقاط كثيرة رغم انّهما لا يعرفان بعضهما معرفة شخصيّة.

    من الواضح أن  الصّحافة كانت هدفا مباشرا لنظام  الانقلاب منذ اعتلى الحُكم في 3 يوليو/ تموز2013، وسعى لإخماد أيّ صوت يعارضه أو يأتي على أخطائه و تجاوزاته بدليل اقتحام بعض المحطّات الإعلامية المحسوبة على الإخوان المسلمين مباشرة ليلة إعلان الانقلاب والسيناريو الدمويّ الذي استهلّ به السيسي مسيرته الرّئاسيّة، ثمّ عزّز هذا الأسلوب التّرهيبي بمجزرة رابعة بعد شهر واحد، في إشارة واضحة الى أنّ حكم العسكر لا يعترف سوى بالحديد و النّار. ورغم فظاعة هذه الانطلاقة التّي سعى النّظام من خلالها إلى التّخلّص من أعدائه وترْويع الأحياء والطّلقاء ، إلا انّ بعض الأصواتٍ الإعلامية المحلّية و الأجنبيّة لم ترتدع. 

 وقد كانت قضيّة ” خلية الماريوت” في يونيو 2014 تعبيراً واضحا على أنّ الانقلاب ركّز نظامه وحاز رضا حكومات الدّول الغربيّة و لم يعدْ منشغلا بملفّ الحقوق و الحرّيات حتى ولو طالت سطوته مواطنون أجانب ينتمون إلى هذه الدول التي طالما تشّدّقت بحقوق الإنسان و حريّة التّعبير، و ما سجن 60 صحافيّا آنذاك والأحكام الغيابية التي شملت الصحافية الهولندية الهاربة رينا نيجيتس، و الإنجليزية سوتورتون وآخرين سوى ضوء أحمر ينبه من تبقّى من المراسلين الأجانب في مصر إلى الالتزام بتعليمات المهنة على الطّريقة العسكريّة. وقد وضّح وقتها وزير الخارجية سامح شكري، كردٍّ على الانتقادات التي عرّت ديكتاتوريّة النّظام، أنّها أحكام صادرة عن القضاء، ومصر تحترم مبدأ الفصل بين السّلطات.

  إجمالا، كانت التّهم المُوجّهة للصّحفيين المحلّيين و الأجانب خصوصا أقوى دليل على أن حرّية التعبير هي الهدف، لأنّ تُهم “التّخابر” مثلا تقدر جِزافًا ، فاللّفظ مُرعبٌ و يبرّر للقضاء تنفيذ الأحكام بدون تردّد حتى لو كان الإعدام. كثيرون ذهبت أعمارهم وأحلامهم و عائلاتهم أدراج الرّياح في ظلّ الصّمت الدّولي، و آخرون توجّسوا المأزق وتمكّنوا من الهرب بفضل جوازات سفرهم الأجنبيّة. أمّا المصريون من المهدّدين، فالشروع في التّفكير في تخطّي المطار في حدّ ذاته يعتبر تهمة.

    ريكارد غونثالث، واحد من الذين تمكّنوا من النّجاة من أن يكون مشروع “ريجيني” آخر. شابّ السّبع والثلاثين سنة، ضعيف البنية، ذو سِمات متوسّطيّة، توحي نظاراته بشغفه بالدّراسة و البحث، و يوحي شكله و أصابعه خصوصا ببساطة و براءة الشّاب الأوروبي المتخلّق و المتصالح مع الثقافات الأخرى، فلا تراه يتكبّر على أكل “الكُشري” و لا ” الفول” وهو القادم من نيويورك إلى مصر .

    تذكّرت ريكارد  كما  تذكّره أصدقاؤه في قضيّة مقتل ريجيني، لأنّ هذا الشاب الإيطالي المغدور لا يبعد في الوصف عن هذا الصّحفي الإسباني الفار تحسّبا لوقوع سوءٍ مماثل.
     مشكلة النّظام المصري الذي اشتدتّ به الوحشيّة مؤخّرا إلى أن يخبط خبط عشواء ترهيبا لبقيّة الشّعب الخارج عن الطّاعة، كان اختياره  لـ “ريجيني” أحد أخطائه الغبّية. هذا النّظام لم يحرص على انتقاء أساليبه حتى ولو كانت في مجال القمع و التّرهيب، ما زال إلى الآن يشيع لدى الرّأي العام المصري أنّ الشّباب الأوروبي الآتي إلى مصر هو شباب “ماجن” بدليل اتّهامه لريجيني بانه من “المحشّشين”، و انّه شاب مُترف بدليل سحبِه لـعشرة آلاف دولار من حسابه البنكي حالما طلبها مختطفوه (في رواية المتحدّث باسم وزارة الداخلية)، وأن وجوده على أرض مصر فيه “إنّ” باعتبار اتهامه بالتجسّس لصالح بريطانيا. دون نسيان تُهم الشّذوذ الجنسي التي أوكلتها له العقول العسكرية الفذّة وهي المعتقدة أن المجتمع الأوروبي مجتمع متحرّر جنسيا إلى درجة أن يرسّخ هذا الشّذوذ مثلا كمُعطًى بيولوجيّا في كل مواطنيه. أكاذيب مفضوحة ومتخلّفة جدّا يريد النّظام إشاعتها لدى الرّأي العام المُتقبّل لأي رواية منه بحُكم الولاء و التفويض حتى في التّفكير.

     فات النّظام أن ينتبه إلى أنّ مصر و فلسطين و سوريا… كلّها جبهات تستهوي الشّباب الأوروبي الذي يترك أضواء أوروبا و سلامة العيش فيها فقط ليعزّز تجربته الإنسانيّة و الثّقافية و المهنيّة. سقف طموحات عالٍ يسعى إلى الإطّلاع على القضايا من قلب أحداثها. طموحات تحرم أصحابها حتى من تنفّس هواء نقيّ و شرب ماءٍ صحّيٍّ في أخفّ الحالات، وربّما تكلّفه الاعتقال، أو الاختفاء القسريّ، أو حتى القتل و التّنكيل بجسمه حيّا و ميّتا. نظام يثُبت التّهمة على نفسه مهما اجتهد في التّمويه. ولا غرابة، فهو الأحرص على الوقوف في وجه الثقافة و المعرفة و العلم، وإن كان طالبوها أجانب على أرض المحروسة.
محظوظ “ريكارد” لأنه تلقي تحذيراً من وزارة خارجيته فغادر مصر، ومن الواضح أنه لو كان قد بقى لكان مصيره هو نفس مصير “ريجيني” !

_______________________________

*كاتبة تونسية تقيم في  إسبانيا 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه