عبد الرزاق قيراط يكتب: فنّ التطاول على الرؤساء والوزراء.

عبد الرزاق قيراط*
إذا أردت أن تتطاول على رئيس الدولة بواسطة الفيسبوك فلا تجعل ذلك علنيّا حتّى لا تتعرّض للشرر المتطاير من عيون البوليس.. ولا تجعل “تطاولك” متاحا للقراءة لدى عموم الناس. وانتبه إلى خيارات النشر بما يضمن لك السلامة. فلا  تعرض مواقفك “المعادية” حتّى على أصدقائك الافتراضيين خوفا من وشاية المندسّين الذين يتستّرون خلف أسماء مستعارة، بل اكتبها في تدوينات من نوع “السلْفي” لتكون مغلقة بحيث تظهر لك صورة القفل فلا يراها إلا صاحب الحساب الذي هو أنت،  وهكذا تكون قد عملت بمبدأ أضعف الإيمان، قياسا على الحديث النبوي:”من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان”.
واعلم، رعاك الله، أنّ تغيير منكرات الرؤساء والوزراء على الفيسبوك مجلبة للمهالك. وتشويه صورهم وهيئاتهم بواسطة الفوتوشوب مدعاة للكروب. فتجنّب، إذا كنت تونسيّا، مشاركة الروابط والمنشورات المسيئة لأولي الأمر، وامتنع عن النقر على وصلة الإعجاب ولا تعلّق على ما يصلك منها بعبارات المساندة والتأييد.  فكلّ “لايك” شبهة وضلالة، وكلّ ضلالة في النار. وراجع بسرعة ما قمتَ بنشره في صفحتك على امتداد السنوات السابقة، فأنت محاسب على كلّ كبيرة وصغيرة ما تقدمّ منها وما تأخّر، والداخليّة بها محيطة، وأعوانها غير منشغلين بالحرب على الإرهاب، بل مدجّجين بالفأرات ولوحات المفاتيح وأقوى محرّكات البحث وبرامج الاختراق والتجسّس للتسلّل إلى المواقع والشبكات في سبيل المحافظة على أمن رئيس البلاد ووزراء الحكومة من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، “ومن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره”.
لقد مررنا بعد الثورة بسنوات خدّاعات، وزيّنت لنا شهواتنا إلى الحريّة حبّ الاعتداء على أصحاب المقامات، وأضلّنا السامريّون في منابر “التوك شو”، وعلّمونا كيف نسبّ الرئيس ونشتم الوزير، ونلعن المسؤول الكبير، ونضحك عليهم، ونستهزئ بأقوالهم وأفعالهم، ونفضح زلاّتهم، ونعارض قراراتهم… أما اليوم فقد عادت فخامة “هيبة الدولة” التي تجرّم الإساءة لرئيس الجمهوريّة وإتيان “الأمور الموحشة” في حقّه عن طريق النشر في وسائل الإعلام بأنواعها وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. وفي هذا السياق، ألقت الشرطة القبض على مدوّن بتهمة “القذف العلنيّ والتطاول على رئاسة الجمهوريّة”، فتجنّبوا أيها التونسيّون تلك المزالق، وابتعدوا بالخصوص عن “القذف العلنيّ” وعودوا إلى السريّة، والوقاية خير من السجن.
لقد أصبحت محاكمة الإعلاميّين والمدوّنين والكوميديّين الساخرين على خلفيّة مواقفهم من رئيس الجمهوريّة أو رئيس الوزراء أمرا متكرّرا، يعكس تراجعا ملحوظا على مستوى حريّة التعبير.. واللافت أنّ آخر قضيّة في حقّ المدوّن والناشط الحقوقيّ مهيب التومي تحاسبه على تدوينات نشرها سنة 2012 حسب تصريح محاميه الذي اعتبر “أنّ محاكمة موكّله تدخل في باب مصادرة الحريّات” مضيفا “أنّ مواقع التواصل الاجتماعي هي فضاءات حرّة خاصّة لا تحتوي على أركان العموميّة والعلنيّة لتجريم ما ينشر فيها”.
إنّ محاولة تكميم الأفواه بواسطة المحاكمات يرمي إلى إعادة تكريس آليّة “الرقابة الذاتية” لدى الصحفيين والمبدعين والمواطنين حتى لا يتجرّأ  أحد على انتقاد الطبقة الحاكمة وسياساتها الجائرة التي تتجه إلى التصالح مع الفساد والمفسدين. وقد توغّلنا في ذلك المسار بعيدا إلى حدّ لا يسمح لنا بالمقارنة بين عهدي المرزوقي والسبسي. والثابت اليوم أنّ “التجاوزات” التي اقترفت في حقّ الوزراء السابقين في حكومتي الترويكا، لم تكن سوى تمرين مؤقّت على حريّة التعبير في سياق تحوّل ديمقراطيّ مزيّف جرت خلاله انتخابات “نزيهة شفّافة” حُسمت نتائجها في الاتجاه الذي (قدّرناه تقديرا). وهذا ما يسمّى الإعداد الجيّد لمقتضيات التصويت لحرمان أحزاب بعينها (وهي راضية على الأرجح) من الحصول على أغلبيّة مريحة تمكّنها من “الاستحواذ” مرّة أخرى على السلطة..
إنّه الدرس الذي خرجنا به من تجربة الترويكا المُقالة. وبرحيلها، وضعت الحرب الإعلاميّة أوزارها وتنفّست قنواتنا التلفزيونيّة الصُّعداء، وأشاعت في أخبارها أنّ الجميع سُعداء بحكومة الحبيب الصيد في عهد “فخامة” الرئيس الباجي قايد السبسي أطال الله في عمره، وعافاه من الردّ إلى أرذل العمر.
أما الفيسبوك الذي أزعجه وتحوّل إلى منصّة للتطاول عليه فقد بدأ يتعافى من قول الزور، ونشر الأكاذيب والأباطيل ما أثار التعجّب لدى العامّة والخاصّة، حتّى كتب الأستاذ مهدي مبروك، وزير الثقافة في حكومة الترويكا مستغربا: “وأنت تنقر بأناملك على ركن الاستقبال من صفحتك علّك تجد موقفا أو رأيا أو خبرا أو صورة أنزلها أو تقاسمها أحد أصدقائك الذين يعدّون بالمئات إن لم يكن بالآلاف وقد تخيّرتهم وحرصت على استضافتهم أو قبول دعواتهم، تنطّ في وجهك أطباق التين والعنب وأجساد “مستلقية” على شاطئ البحر وأشياء أخرى تجعلك في حيرة من أمرك. ويبقى عزاؤك الوحيد أنّك تعثر بين الحين والآخر على دُرر وياقوت فتعدل عمّا كان يدور في خلدك..”
فانظر إلى الدرر والياقوت، لتعرف أنّ التدوين قد ارتقى إلى درجة من التفنّن لمراوغة كلّ رقيب عتيد. فتطاولوا أنّى شئتم ولكن بفنّ.

________________________

* كاتب تونسي 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه