صحفيون وصحفيون!

هذه بانوراما سريعة بها من النماذج على سبيل المثل لا الحصر لمواقف الصحفيين وأدوارهم البطولية في مواجهة بطش النظم الفاشية.

أعترف بأنني في كثير من الأحيان لا أكون موضوعيا في التعامل مع الزملاء الصحفيين، سواء بالتماس الأعذار لهم في أخطاء كثيرة أو بالقسوة في الحكم عليهم في تصرفات كثيرة… هذا التطرف اللاموضوعي في موقفي من الجماعة الصحفية مبعثه عشقي ليس للمهنة وإنما للصورة الذهنية التي أتبناها عن المهنة، أو بتعبير أدق للصورة المثالية التي أتمناها.

وقائع

في الفترة الأخيرة سادت بين غالبية الصحفيين وخاصة الشبان منهم حالة قلبت معنى كلمة صحفي وصحافة شكلا وموضوعا، وأفقدت المهنة والمجتمع الصحفي ملامحه وصفاته التي كانت تميزه وتصونه وتكفل له الحماية والقوة، وسأوضح ببساطة من خلال حالات ووقائع عايشتها في الفترة الأخيرة وما زلت أعايشها مع اعتذاري عما سأذكره من وقائع حقيقية مؤسفة:

ذات يوم اتصلت بي صحفية في مقتبل العمر وأخبرتني باكية بأنها وقعت على استقالة تحت الإجبار، فلما سألتها عن السبب قالت: «رئيس التحرير أرسل لي من يطلب مني الاستقالة لأنهم يوفرون النفقات وعندما رفضت أخبرني المندوب الإداري بأن رئيس التحرير له اتصالات أمنية ومن الممكن أن يحبسني وزوجي في أي قضية سياسية فخفت وقدمت استقالة!!!».
وبعد أن وجهت لها كلمات قاسية عن ضعفها وسذاجتها طلبت منها أن تذهب للبريد وترسل تلغرافا بسحب الاستقالة وهذا حقها خلال 30 يوما، وكان ردها الأعجب «بس أنا أخاف ليعمل معايا حاجة»، انفعلت وقلت لها «ماذا تريدين لن يمكنا حتى التضامن معك وأنت بهذا الضعف؟» ثم قسوت عليها أكثر قائلا: «لا تصلحي للعمل صحفية وأنت جبانة كده (هكذا) فماذا لو تعرضت لقضية فساد ومورس عليك ضغط؟»، لكنها استقالت وعملت في جريدة أخرى دون أن تحصل على أي حق من حقوقها!!

صحفية أخري فكرت في الانتحار بعد أن أصدر رئيس التحرير قراراً بفصلها لمجرد أنها لا تلاقي قبولا عنده ولا عند رؤساء الأقسام، وهو يعلم أن دخلها محدود، وتعاني هي وزوجها نتيجة مرض طفلهما وارتفاع تكلفة العلاج، ولما حاولت شرح الظروف القاسية التي تعيشها سبها أمام رؤساء الأقسام ومديري التحرير دون أن يعترض أحد رغم كفاءتها المعروفة بين زملائها.
ولما تذكرت ابنها الطفل المريض وحياته التي ممكن أن تضيع لو توقف العلاج ارتمت على قدم رئيس التحرير وقبلتها فما كان منه إلا أن دفعها بقدمه، وطلب من معاونيه الذين كانوا يشاهدون الموقف في صمت أن يلقوا بها في الخارج، وبعدها فكرت في الانتحار بعد أن شعرت أن آدميتها أهينت بهذا الشكل، لولا استيعاب بعض الزملاء لها.

عدد من الزملاء الشبان تم فصلهم فصلا تعسفيا بسبب رفضهم لاتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية والتخلي عن جزيرتي تيران وصنافير، ورغم وضوح قضيتهم من الناحية القانونية والنقابية خاف معظمهم من اتخاذ الإجراءات خوفا من علاقات رؤسائهم وملاك الصحف بالأجهزة الأمنية، وقال واحد منهم لي بالحرف: «المؤسسة ملك الأمن تفتكر أنا ممكن أشتكي الأمن؟!»، وأعتقد أن هذا هو المطلوب تماما من فرض هذا المناخ الإرهابي على شباب الصحفيين، لكسر كل التراث المهني حول شخصية الصحفي وطبيعته الجسورة المقدامة وحربه من أجل الحق وقول كلمة الحق في وجه أي ظالم حتى لو كان الحاكم.

افتقاد الهوية

وفي خط مواز لهذا القمع بسيف الإرهاب، هناك خط آخر لإفقاد الصحفي هويته وشخصيته بل وكرامته يعتمد على ذهب الفساد وأدوات الإفساد المغرية من أموال يضخها رجال الأعمال والسلطة الفاسدين لتغيير بنية التكوين المهني في الصحافة، وخلق نوع جديد من الصحفيين الذين لا يدركون قداسة الكلمة ولا يرون في العمل الصحفي سوى “سبوبة” وطريق للربح السريع.

كيف سيمارس الصحفي عمله كضمير لهذه الأمة مدافعا عن حقوق الوطن، كاشفا للفساد والانحراف وهو بهذه النفسية المنهارة، محاطا بإرهاب المؤسسات والتهديد في لقمة العيش بل والتلويح بالحبس والمطاردة، ومحاطا بفساد رجال الأعمال الفاسدين وسلطة غاشمة باطشة ومغريات الثراء السريع لو طوع قلمه في خدمة الفساد والفاشية والقمع وبيع أرض الوطن؟!!
كيف سيمارس عمله في ظل نقابة هدمت مظلة الحماية النقابية وتحول مجلسها إلى إدارة ضمن إدارات النظام الحاكم كل مهمته الضغط على الصحفي للتنازل عن حقوقه وقبول بدائل مهينة للكرامة تحت دعوى عدم إشعال الحرائق!!!

الضرب بالحذاء

منذ أسابيع توجهت صحفية مكلفة من صحيفتها بإجراء تحقيق صحفي عن مشكلات المنطقة الجمركية ببور سعيد، وأثناء تأدية مهمتها قام أحد الضباط بمنعها والاعتداء عليها بالضرب المبرح والإهانة ووصل الأمر إلى إلقائها على الأرض ووضع قدمه فوق رأسها، لن أطيل في تفاصيل هذه الجريمة إلا أن اللافت أنها عندما تقدمت بشكوى لجريدتها ونقابتها تعرضت لضغوط قوية للموافقة على صلح من دون أي عقوبة للضابط بحجة ساقتها الداخلية، وهي غير مهتمة، مفادها أن الضابط عندما اعتدى عليها لم يكن يعرف أنها صحافية!!!
وكأن الاعتداء على المواطنين من قبل الشرطة هو القاعدة وعدم الاعتداء استثناء تمنحه وزارة الداخلية لمن تراه يستحق الأمن، اللافت أكثر أن الصحفية لم تحرر محضرا لحظة الواقعة خشية أن يقوم الضابط بتلفيق تهمة لها تتسبب في سجنها، خاصة وأن التهم المعلبة كثيرة وواقعة صحفية ترام الإسكندرية ليست ببعيد.

الوقائع كثيرة وما يعنيني هنا هو تمسك الصحفي بحقوقه في الحماية أثناء القيام بمهمته وهو ما أصبح الآن قيمة لا تعني الكثير من أبناء المهنة وخاصة الشباب، وأصبحت مهنة البحث عن المتاعب من أجل الوصول للحقيقة مهنة تجنب المتاعب خوفا من بطش السلطة.

والحقيقة أن هجوم الأنظمة الحاكمة المتعاقبة على الصحفيين ومحاولة تجريدهم من الحماية أمر يستحق وقفة لما يحمله من دلالات تشير إلى تخوف هذه الأنظمة من فئة مهمتها الأساسية الرقابة عليها وهو ما يعني أنه هناك ما يجب السكوت عنه وهذا يتعارض مع وجود صحافة وإعلام مستقل، كما أن الاتجاه لفرض نوع من الحماية الخاصة للصحفيين أثناء عملهم لا يتعلق بتمييزهم عن باقي الفئات المجتمعية بقدر ما يتعلق بحمايتهم من البطش الناتج عن طبيعة عملهم وتعرضهم لأي قمع أو عنف يتعلق بانتقادهم لسياسة النظم الحاكمة أو فساد بعض الفئات المرتبطة بدوائر الحكم.

المشكلة الأكبر تتعلق بتأثير هذا العنف السلطوي سواء داخل المؤسسات الصحفية أو خارجها على طبيعة تكوين شخصية الصحفي التي تستلزم درجة من الجرأة والجسارة في تناول المشكلات المحيطة بالمجتمع وهو ما يعكس حالة التعتيم على الانحرافات والوقائع الفاسدة بما يؤثر سلبا على نهوض المجتمع ويجعله دائما في ذيل المجتمعات المتقدمة التي تحترم القانون وحقوق مواطنيها.

هذا بالإضافة إلى اتباع الحكومة سياسة الهيمنة على المؤسسات الصحفية سواء باحتكار الملكية من خلال مؤسسات أمنية ورجال أعمال تابعين لها أو من خلال الهيمنة على المؤسسات النقابية ومنها نقابة الصحفيين باختراق جمعيتها العمومية والتأثير على إرادتهم التصويتية بكل الأدوات والوسائل!!!

حكايات مهنية

مادمنا نتحدث عن تردي في الواقع لا بد من تناول أمثلة من الماضي لتبيان مدى التردي ومستواه، حوادث كثيرة تعرض لها الصحفيون أثناء بحثهم عن الحقائق وكشفها وتمسكوا بموقفهم ولم يقدموا أي تنازل ومنهم من دفع ثمن لموقفه من حريته مثلما حدث مع صحفيين جريدة «الشعب» الذين فجروا قضية الأسمدة المسرطنة وفساد يوسف والي وزير الزراعة آنذاك، وتم تدبير تهمة سب وقذف لهم وقضوا ثلاث سنوات عقوبة داخل السجن كان من الممكن أن يتجنبوها لو تراجعوا عن الحقائق التي أعلنوا عنها وكذبوها، ولكنهم قبضوا على موقفهم بشرف.

عقب انتفاضة 1977 ضد سياسات الغلاء التي اتبعها النظام الحاكم برئاسة أنور السادات قامت الحكومة باعتقال عدد كبير من الصحفيين ضمن حملة اعتقالات موسعة، واعتبر «السادات» أن الصحافة قامت بدور كبير في تعبئة المواطنين ضد النظام الحاكم، وكان السادات يطمح في أن يصبح المجتمع الصحفي هو الأداة الرئيسية للتعبئة لصالح الدولة والتخديم على سياساتها وخاصة أنه كان مقدما على خطوة حيوية في تاريخ الصراع مصر وهي زيارته للقدس عام 1979، والتي توازي معها محاولة النظام وضع قيود على الحريات الصحفية وحريات التعبير، وحاول السادات تحويل نقابة الصحفيين إلى ناد فتصدت له الجماعة الصحفية. وعندما حاول السادات فصل الصحفيين من عضوية النقابة تصدى له مجلس نقابة الصحفيين برئاسة كامل زهيري الذي رفع شعار «عضوية النقابة كالجنسية لا تسقط إلا بموت صاحبها» وتراجع النظام عن كل قراراته أمام وحدة الصحفيين وقوتهم، وطوال هذا الوقت كان الصحفي يتمتع بأقوى مظلة حماية ضد أي محاولة للبطش به أثناء ممارسته مهنته.

وفي أغسطس (آب) عام 1989 أضرب عمال الحديد والصلب واقتحمت قوات الأمن المصنع بقيادة وزير الداخلية ذاته وكان آنذاك زكي بدر وقُتل أحد العمال أثناء الاقتحام، وتضامن الصحفيون مع العمال وتم القبض على الراحل محمد السيد سعيد والصحفي مدحت الزاهد وعدد من المحامين وتم تعذيبهم في السجن تعذيبا شديدا لم ينل من إرادتهم وتمسكهم بموقفهم ومبدأهم ودورهم المهني في التعبير عن ألآم الأمة ومعاناتها.

وفي عام 1995 تصدت الجماعة الصحفية ونقابتها لمحاولة جديدة لفرض قانون مقيد للحريات الصحفية وكان الغرض منه حماية فساد رجال الأعمال من تتبع الصحفيين له.

واليوم وأنا أكتب هذا المقال لنا زملاء صحفيون يستكملون صمودهم ويسطرون ملحمة الشرف والنضال ضمن الآلاف من المعتقلين المصريين من أجل الحرية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الزملاء أحمد أبوزيد وأحمد عبد العزيز وعادل صبري وإبراهيم الدراوي ومجدي أحمد حسين وهشام جعفر.

هذه بانوراما سريعة بها من النماذج على سبيل المثل لا الحصر لمواقف الصحفيين وأدوارهم البطولية في مواجهة بطش النظم الفاشية وحماية المجتمع دون أن تهتز عقيدتهم أو تخيفهم تهديدات الأجهزة الأمنية أو سياسات التشريد والفصل، فلقد كانت المهنة لديهم وما زالت رسالة وليست مجرد وظيفة.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه