“سوق الغلابة جَبَر”

في إحدى رحلاتي الدراسية غير المكتملة تعرضت لدراسة “كورس” اقتصاد في مرحلة الدراسات العليا، وما أن بدأ المحاضر الدرس الأول بقاعدة دراسة النظريات الاقتصادية مع افتراض ثبات العوامل، حتى ثارت فى جوانب رأسي كل جينات الرفض الكامنة داخلي بالفطرة وكل سلوكيات الاحتجاج المكتسبة فى مواجهة هذا الافتراض، فقد كانت أخلاقياتي الثورية تضع فى مقدمة الاعتبارات كل العوامل والنتائج والتأثيرات، وترفض بشدة أي افتراض بثبات العوامل.

طوال سنوات عمرى وهناك هوة سحيقة بيني وبين علماء الاقتصاد والسياسة الذين يلتزمون بمثل هذه القواعد، ويتحدثون دائما في الاقتصاد والسياسة ومشكلات الجماهير بافتراض ثبات العوامل، وكانوا هم بدورهم ينظرون لى على أنني السطحي المتخلف عن ركب صفوة علماء الاقتصاد والسياسة، ويتعاملون معي باعتبارى ضمن قيادات الجماهير الساذجة التي لا يعرف مصلحتها سوى هؤلاء المفكرون والاقتصاديون بنظرياتهم التى لا يدركها البسطاء.

ورغم هذه الحالة الممتدة استمرت حالة الرفض داخلي لافتراض ثبات العوامل التي كانت بمثابة المسافة الكبيرة بين الاقتصاديين والمفكرين السياسيين وهموم البسطاء التى تزداد يوما بعد يوم، ولم تؤثر فيها نظريات وفذلكات وتحذلقات المفكرين والسياسيين والاقتصاديين.

وخارج بنيان المقالة التقليدي، دعونا نتخيل سويًا خشبة مسرح، يقف فوقها جوقة من المفكرين الاقتصاديين والسياسين ورجال إعلام السلطة المتلونين يتحدثون إلى جماهير المعاناة والفقر بكل المصطلحات العلمية وأحدث النظريات الاقتصادية بشان أسباب فقرهم ومعاناتهم مستخدمين أقوى المصطلحات الاقتصادية البراقة مثل: ميزان المدفوعات، خط الفقر، التضخم، مستوى دخل الفرد، فائض القيمة، الناتج القومي، معدل الفائدة وغيرها.

البؤساء

ويجلس فى صفوف الجماهير هؤلاء البؤساء، كل واحد منهم يحمل في رأسه مشاهد وهموما ومصائر كارثية لا يدركها، ومنها على سبيل المثال مشاهد من الواقع حدثت بالفعل، وليست من وحى خيال كاتب المقال، دعونا ننزل إلى صفوف الجماهير البائسة لحظات أتمنى أن نتحملها.

 “سامى ألفريد” رجل أعمال بمنطقة النزهة قتل زوجته وابنيه  آندرو (12 عاما)، وإيرنى (18 عاما)، رميا بالرصاص ثم انتحر فى نفس اللحظة، لمروره بضائقة مالية، حيث تأثرت تجارته بسبب الأزمة المالية.

 “محمد.أ.ص” (44 سنة) سائق بالأمن الصناعي بشركة أسيوط لتكرير البترول قام بقتل زوجته الحامل وأبنائه الأربعة نهاد وخالد ويثرب وتقى بساطور، بسبب خلافات أسرية، وفر هاربًا.

سعاد أحمد عبد الرسول أرملة تعيش فى محافظة الوادى الجديد أخرجت بناتها من المدارس، وتنوى إخراج ابنها من الصف الثالث الإعدادي بسبب عدم قدرتها على توفير متطلبات الدراسة والرسوم، حيث إنها تعيش حالة اقتصادية سيئة بعد وفاة زوجها، وليس لديها أى مصدر دخل يساعدها على سد حاجة أسرتها.

“مصطفى.ص” (43 سنة) أطلق الرصاص على نجله (12 سنة) وزوجته، ثم أطلق النار على نفسه بسبب الفقر، لأنه عاطل، خاصه بعد وفاة نجله الأصغر محمد 9 سنوات بمرض السرطان.

المهندس شريف كمال الدين (56 عاما) قتل زوجته وأبناءه داخل شقتهم باستخدام بلطة حديدية وهم نائمون، خوفا عليهم من الفقر والذل ثم حاول قطع شرايين يده محاولا الانتحار بعد أن خسر أمواله فى البورصة. 

“أسامة” مدرس بالمنيا ذبح زوجته وأولاده، لمروره بأزمات مالية.

ربة منزل (35 سنة) من قرية «طهنا الجبل» بالمنيا، تخلصت من طفلتها بتركها في مستشفى الصدر بالمنيا، وبلغت عن اختطافها للتمويه، وتم كشف جريمتها واعترفت أنها تخلصت من الطفلة لظروف زوجها المتعثرة ماليا.

 وضمن صفوف المشاهدين البؤساء، يجلس صف من الذين حاولوا التخلص من حياتهم بسبب الضائقة المالية وفقدان الأمل فى تجاوز أزماتهم منهم:

“بدر. ص. ا” (22 سنة) جزار من الفيوم حاول الانتحار بتناول مادة سامة “أقراص مكافحة سوس القمح”، لمروره بضائقة مالية.

ومنذ أيام قليلة أقدم عامل على إلقاء نجليه الصغيرين في ترعة نجع حمادي من أعلى كوبري الشعارنة، ولقيا حتفهما غرقا، وقالت التحقيقات الأولية إن المتهم يعانى من ضائقة نفسية ومالية.

وفى شمال سيناء قام محمد (20 عامًا) الحاصل على دبلوم فني صناعي، بشنق نفسه بمنزله بقرية التلول التابعة لمركز ومدينة بئر العبد، وذلك لمروره بضائقة مالية.

“أحمد. س. م” (19 سنة) سائق توك توك من قنا، و”وليد ربيع محمد” (36 سنة) حلاق من الفيوم و”عادل. ر” (18 سنة) من المحلة الكبرى و”محمد. ع” (33 سنة) من الغربية و”م. ع” (36 سنة) من المنيا، كل هؤلاء فقدوا حياتهم خلال الأشهر القليلة الماضية بسبب مرورهم بضائقة مالية.

وهكذا يا سادة فإنكم عرفتم السبب لاتساع الهوة بين الجماهير البائسة والنخبة والمفكرين وعلماء الاقتصاد، فريق النخبة والعلماء والساسة والاقتصاديين يتناول الأمور بنظريات تفترض ثبات العوامل، وفريق الشعب البائس يدفع حياته نتيجة العوامل المتغيرة البائسة التى لا يدركها العلماء والمفكرون، ولم يذوقوا مرارتها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه