سمير طاهر يكتب: في مسألة اللجوء

من السمات المشتركة الأخرى في أفلام المهرجان وصف كيف يتحول المهاجرون على اختلاف نوعياتهم إلى شخصيات أخرى غير ما كانوا عليه.

سمير طاهر*

بين فترة وأخرى تمر على العالم قضية معينة لا تفرض نفسها على السياسة والعلاقات الدولية وحسب وإنما حتى على الإعلام والفعاليات الثقافية أيضاً. لهذا ليس مستغرباً أن تكون قضية اللجوء والهجرة حاضرة في كل مكان ثقافي وكل منبر، فهي القضية التي تشغل الجميع حالياً ويهتز له طرفا العالم: الطرف الذي يهرب منه الناس، والطرف الذي يهربون إليه. ومما يثير الإعجاب في قطاع الثقافة في السويد  أن العاملين فيه حريصون على مواكبة أحداث العالم ومتغيراته، بل ويبتدعون من الأفكار والبادِرات ما يرقى الى أن يصبح موقفاً واضح الدلالة – وإن كان رمزياً – من هذه القضايا. من ذلك هو ما شهدته الساحة الثقافية هنا من نشاطات تصب في الجدل الدائر حول مسألة اللاجئين.
ففي ذروة احتدام الجدل السياسي حول هذه المسألة والحرب الاعلامية العلنية التي يشنها العنصريون ضد المهاجرين، بادرت لجنة جائزة أوغست ستريندبيرغ، وهي واحدة من أهم الجوائز الأدبية في البلاد، الى أن تختار كاتباً والده مهاجر تونسي لكي تمنحه جائزة هذا العام، وهو الشاعر يونس حسن خميري. تلك كانت رسالة لها دلالتها، مثلما كانت رسالة مهرجان ستوكهولم للأفلام عندما اختار، في التوقيت نفسه، أن يكون موضوعه المركزي لهذا العام هو الهجرة. ومن خلال أفلام المهرجان وفعالياته أتيح للمشاهدين أن يعايشوا صورة مختلفة لهذه المسألة الساخنة. وما أثرى هذه الصورة هو تعدد الأفلام المشاركة واختلاف زوايا النظر والأساليب الفنية فيها، ما بين التجارب الذاتية والعمل الوثائقي. لكن رغم هذه الاختلافات تبرز في الأفلام المعروضة سمات مشتركة مهمة، أكثرها وضوحاً هو ما يتعرض له المهاجرون من سلوك لا إنساني ومن التعصب الهوياتي.
ففيلم “ميديتيرانيا” يتحدث عن صديقين من بوركينا فاسو يعبران الصحراء ثم البحر ويعيشان تجربة التعرض لتهديد قطاع الطرق وحرس المعابر الحدودية، ليصلا في النهاية الى مدينة جنوبي إيطاليا آملين بعمل وحياة جديدة. لكن هذه البيئة الجديدة تقصيهما الى هامش المجتمع، لينتهي بهما المطاف في خيم بدائية خارج المدينة. ومع افتقارهما الى أوراق شرعية والى حقوق مواطنة يتحولان الى صفة “مجهولي الهوية” ويسهل استغلالهما، ويصبحا فردين أعزلين محاصرين بالحدود بين دول مختلفة وسلطات مختلفة.
بينما يعالج فيلم “خارج سيطرتي” هذه القضية من خلال شخصية سيسكو، العامل الزراعي في مزارع المطاط في ليبيريا والذي كان جندياً سابقاً، وعلى أثر فشل تمرد شارك فيه يهرب الى نيويورك إيماناً منه بالحلم الأمريكي. في الفصل الأخير من الفيلم نشاهد حقيقة هذا “الحلم الأمريكي” حيث نرى سيسكو في شارع معتم بالمدينة الكبيرة وهو يبدل إطارات سيارة الأجرة خاصته وقد ران الانهاك على عينيه، فحياته الآن غدت أكثر فراغاً وأكثر صمتاً من الحياة التي تركها وراءه في الوطن البعيد، وفوق هذا فهو هنا محروم من الأسرة والأصدقاء.
في فيلم “غرفة الانتظار” لإيغور درلجاكا نجد شخصية الممثل السابق جاسمين جيلجو الذي هاجر الى كندا من الحرب في بلده يوغسلافيا السابقة، والتي أصبحت ذكريات حياته الماضية أكثر حضوراً لديه من الواقع المعاش. فعندما يشتغل في فيلم عن الحرب في بلده يجد نفسه يهرب مرة أخرى، لكن هذه المرة يهرب الى ماضيه

من السمات المشتركة الأخرى في أفلام المهرجان أنه يصف كيف يتحول المهاجرون على اختلاف نوعياتهم الى شخصيات أخرى غير ما كانوا عليه. ففي خضم التجربة لا يعود أولئك الأشخاص الأقوياء أو الشجعان الذين كانوا عليه في أوطانهم وإنما أصبحوا “لاجئين” بكل ما في هذا الوصف من عجز ومن فقدان التحكم بالمصير ومن حاجة الى تعاطف السلطات ورحمة الظروف. ففي وضعهم هذا في البلد الغريب يصبحوا مستبعدين لا من مواطني هذا البلد وحسب وإنما حتى من المناقشات السياسية المحلية التي تتعلق بمصيرهم، فهم غير موجودين كبشر وإنما فقط كمادة للجدل السياسي، وهم ينتظرون أن يقرر الآخرون مصيرهم، مثلما كان المهربون وأمواج البحر وأخطار الطريق يقررون مصيرهم. لقد فقدوا حق التصرف بمستقبلهم من أول ساعة في طريق الهجرة، وذلك على عكس مافكروا به في البداية! ولهذا نرى سيسكو في فيلم “خارج سيطرتي” يقرر أن يركز اهتمامه على حلم الأمان الاقتصادي له ولأسرته، ويتجاهل جاسمين في فيلم “غرفة الانتظار” العالم الخارجي من أجل حنينه الكئيب إلى حياته الماضية، فيما يكافح بطلا فيلم “ميديتيرانيا” في سبيل طعام ونقود وحياة كريمة وليس من أجل أفكار كبيرة.
إن هذه النماذج من المهاجرين التي قدمها مخرجون مختلفون تقدم لنا صورة مهمة عن اللاجئ تتناقض مع تلك التي تقدمها الأخبار ووسائل الاعلام ووسائل التواصل، والتي كثيراً ما تميل الى أن تكون أحادية وحتى عنصرية. وهذا يؤشر الى أي مدى يمكن للإدارة الثقافية الكفء أن تساهم – من خلال أنشطة شعبية – في التوعية وتصحيح المفاهيم الخاطئة، وفي تزويد المشاهد بمفهوم أكثر إنسانية وأكثر واقعية للقضايا الراهنة.

____________________________

*كاتب عراقي مقيم في السويد 

 

 

 

 

 
 
  

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه