سمير طاهر يكتب: 40 عامًا على رحيل أم كلثوم

اليوم وبعد أربعين عامًا من رحيلها ما يزال شباب وكهول، عربًا وغير عرب ممن يفهمون العربية، يشغّلون أغاني السيدة ويوقفون مع صداحها دوران الزمن ومسير العمر. يتبع

*سمير طاهر 

 في هذا الشهر يكون قد مر أربعون عامًا على الحدث الجلل. في ذلك الصباح الباكر خرج المصريون عن بكرة أبيهم ليرافقوا “الست” إلى مثواها الأخير. كان واضحًا أن الجماهير، بخروجها بهذه الملايين التي سدت الأفق، كانت مأخوذة بصدمة شعورية شديدة: فالأسطوانة التي ظلت على مدى عقود تروي تأريخهم العاطفي، كفت عن الدوران.

رغم كل ما قيل مع وضد ظاهرة الأغنية الكلثومية، وكل التحليلات التي ربطت هذه الظاهرة بالإنسان العربي وبالمجتمع وحتى بالسياسة (إذ وصل إلى درجة تحميل أم كلثوم مسسؤولية هزيمة 1976) فإن السيدة كانت – في رأيي– في واد آخر تمامًا. بل وكان مجدها مدينًا لحالة الانفصال المقصود بينها وبين ألوان الضجيج المثار حولها. فكلمة السر في مجد أم كلثوم هي التكرّس: أن يكرس المرء نفسه وحياته وآخر ذرة من الطاقة عنده لرعاية قضية أو موهبة.

فعلى خلاف السائد هذه الأيام، لم يكن الغناء عند السيدة وسيلة لتحقيق هدف الانتشار وإنما كان الغناء هو الهدف بحد ذاته. بل يتراءى لي الأمر أعمق من ذلك: فعند التأمل في نموذج أم كلثوم نرى أن الغناء ليس هدفها الشخصي وحسب وإنما هو طريقتها في ممارسة الحياة، إنه الشكل الذي اختارته لكينونتها.

مهما حاولت أن أشرح هذا المعنى فلن أصل إلى مهارة الشاعر الإسباني لوركا الذي صاغ هذا المعنى بأجمل صورة وذلك في قصيدة رقيقة أسماها “قصيدة الوردة” لا تنطبق على شخص مثلما تنطبق على أم كلثوم: حيث صوّر لوركا “الوردة” مكتفيةً بطبيعتها المعطاء، لا تسمح لأي شيء خارجي بأن يشوش عليها، لا تطمح إلى شهرة ولا تطمع بإرضاء أناس ما، فالوردة مشغولة بالعطاء، مكرسة نفسها لأن تمنح الناس عطرًا وجمالاً. عندما قرأت قصيدة لوركا هذه قفزت في ذهني على الفور أم كلثوم، وردة العالم العربي.

فن أصيل
فالسيدة لم تسع إلى إرضاء جمهور أو ذوق، إنما كانت تستمتع وحسب، كانت تكرس نفسها للفن. وهذا هو الشرط الرئيسي لإنتاج فن أصيل ومستمر عبر الزمن. إن ملايين الناس من سكان الوطن العربي مدينون لهذا التكرّس الذي التزمته السيدة طيلة حياتها العملية، فهو الذي أنتج لهم هذه المشاطرة العاطفية السخية التي تمتعوا بها جيلاً بعد جيل. فوحده الفن الأصيل يمكنه أن يصل إلى درجة المشاطرة والعزاء والدعم الروحي للناس.

 فالفن – كما يذهب مارسيل بروست – هو مصباح لرؤية حقيقة انفعالاتنا وذلك بكشفه ما وراء هذه الانفعالات من ذكريات وأحداث، وعلى حد تعبيره فإن “العمل الفني هو وسيلتنا الوحيدة لاسترجاع الزمن المفقود”. وهذا هو تفسير التعلق الفريد لملايين الناس بالغناء الكلثومي على مدى أجيال. ففي هذا التعلق، الذي يراه بعض النقاد شبيهاً بالإدمان، يستمتع المستمع بنشوة النغم مرة بعد أخرى وفي كل مرة يتذوقها كأنها أول مرة، وهذه هي لذتها! بالضبط مثلما لا يمل المرء من تكرار استعادة الذكرى العزيزة، بل ويجد في هذا التكرار عزاءً له عن انتقال الأوقات الجميلة من عالم الواقع إلى عالم الذكريات.

ظاهرة فريدة
فأم كلثوم عاشقة مولّهة للفن، وهذا العشق هو مصدر وسرّ الذرى التي بلغتها في مسيرتها. إن الغناء الكلثومي ظاهرة فريدة يكاد يستحيل تكرارها. وفرادتها متأتية من كونها مزيجًا من عناصر لم يستطع أي مغن آخر أن يجمعها كلها معاً:

– الشعر العاطفي الأصيل (أو “الكلمة الحلوة” على حد تعبير السيدة عندما سئلت عن أهم عنصر في الأغنية الناجحة)، والمقصود بالأصالة هنا هو التعبير عن تجارب عاطفية حقيقية ومشاعر مرهفة معاشة.

– المقدرة الصوتية النادرة المتمثلة باتساع المساحة.

– الأداء الغارق تمامًا في اللحظة النغمية، وهو ما اصطلح الجمهور عليه بـ “السلطنة”.

– الطابع القيادي للمغني والطابع الخدمي للموسيقى المصاحبة وكأنها تجاهد محاولةً اللحاق بإبداعات المغني.

واليوم وبعد أربعين عامًا من رحيلها ما يزال شباب وكهول، عربًا وغير عرب ممن يفهمون العربية، يشغّلون أغاني السيدة ويوقفون مع صداحها دوران الزمن ومسير العمر.   
_______________
*كاتب عراقي

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه