“سمسم” و”صدفة الإرهاب”

الخلاصة:
لا أستطيع الجزم أن السيسي “صانع للإرهاب”… لكن يمكنني القول إنه “يتاجر فيه”.

(1)

لا أحب “نظرية المؤامرة”، لكنني بنفس الدرجة، لا أحب تفسير الأحداث بمنطق “الصدفة”، دائما هناك “منطق ما” وراء كل شيء، حتى لو لم نكن نعرفه، فمثلا عندما احتاج الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لذريعة يعلن بها الطواريء، وقعت تفجيرات الكنيستين في طنطا والاسكندرية.. إذا فكرنا حسب “نظرية المؤامرة”، فإننا سنتورط في اتهام لنظام السيسي بتدبير هذه التفجيرات، أو التواطؤ عن بعد، لكي تقع ويتم استثمارها بعد ذلك، أما إذا فكرنا بمنطق الصدفة، فإننا نبريء النظام من المشاركة المباشرة أو المشاركة غير المباشرة بالتواطؤ أو بالإهمال، بينما يبقى الجزء الثاني المتعلق بالتوظيف والاستثمار قائماً، والمثال نفسه ينطبق على أحداث كثيرة، استفاد منها نظام السيسي في توظيف الإرهاب كعامل دعم لاستمراره، وتأكيد الحاجة إليه كضرورة للحفاظ على الدولة من “أهل الشر”، وقد تكررت هذه “المصادفات” للدرجة التي ذكرتني بالمحاولات التي كان يرتبها “سمسم” للقاء “نوال” في فيلم “موعد غرام”.

(2)

أسلوب “تصنيع الصدفة” لم يتوقف عند زمن عبد الحليم حافظ في منتصف الخمسينات، حيث كان كل هدف الشاب المستهتر “سمير” يتلخص في ترتيب موعد غرامي يجذب من خلاله الصحفية الحسناء التي قامت بدورها “فاتن حمامة”، لكنه وصل في زمن السيسي إلى قصف ليبيا رداً على مقتل عشرات الأقباط في صعيد مصر!، والربط بين القتل والقصف هنا ليس “مؤامرة”، لأن الحديث عن مؤامرة يتطلب معلومات لا تتوفر لكاتب يعيش في “دولة الحجب”، وفي غياب المعلومات لا يجوز التكهن والتخمين في مثل هذه الأمور الخطيرة، عملا بالقاعدة الفقهية “البينة على من ادعى”، لكن “الصدفة” تكفي لإثارة الدهشة، فالقوات الجوية المصرية التي قصفت ليبيا، لم تحلق في صحراء المنيا لتعقب سيارات الدفع الرباعي التي نفذت الجريمة الإرهابية بحق الأقباط، رغم أنها قبل أسبوعين تقريبا قصفت عددا من السيارات المجهولة على الحدود الغربية، وهذا مؤشر يمهد لفكرة أن قصف ليبيا كان هدفاً تم التخطيط له منذ فترة، ولا توجد علاقة مباشرة تربطه بجريمة المنيا إلا “الصدفة” وتزامن التوقيت ورغبة النظام في الربط بين العملين، لتهدئة المكلومين وتقديم القصف لهم باعتباره قصاصاً من القتلة المجهولين!

(3)

المعلومات المتداولة علنا قبل الحادث الإرهابي بأسابيع قليلة، تشير إلى ارتفاع معدل زيارات المسؤولين الليبيين إلى القاهرة للتنسيق من أجل وضع “خارطة طريق” لحل الأزمة الليبية، وبعد تدخل إماراتي ومباركة غربية وروسية (معلنة) تم التوصل إلى اتفاق بين المشير خليفة حفتر الموالي للقاهرة، وبين خصمه اللدود رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، الذي حضر مؤتمر القمة الإسلامية الأمريكية في الرياض ممثلا شرعياً لبلاده، ولما كانت هناك مشاكل على الأرض تهدد استمرار الاتفاق، خاصة من جانب وزير دفاع الوفاق العقيد المهدي البرغثي ومعه ميليشيات القوى الإسلامية المتشددة ضد حفتر، فكان لابد من التدخل لدعم الاتفاق بتوجيه ضربات مباشرة لمراكز تجمعات المناوئين، ولا شك أن هذه الضربات تحتاج إلى معلومات واستعدادات وترتيبات تفصيلية طويلة، يصعب أن تتم في ساعات، وبالتالي فإن الضربات التي وجهتها القاهرة إلى بعض المعسكرات في ليبيا، مخطط لها قبل جريمة مقتل الأقباط، ولا يمكن بأي منطق أن تكون رداً على الحادث، لكن “الصدفة الطيبة” ساعدت السيسي على هذا الربط الوهمي، فاستخدمه لتسويق بطولة داخلية زائفة، بينما المتابع يعرف أن الروس سيناقشون الملف الليبي في القاهرة اليوم، حسب موعد متفق عليه قبل ثلاثة أسابيع!

(4)

“الصدفة” التي جمعت بين القاهرة والإمارات وفرنسا وإيطاليا والسعودية، وساعدت على تحقيق التوافق بين حفتر والسراج، لم تكن بعيدة عن واشنطن، بل أن رسالة السيسي لترامب كانت أشبه بـ”كلمة مرور” للتدخل المصري المباشر في ليبيا، بعد مطالبات متكررة لضرورة تسليح “قوات حفتر” باعتبارها الجيش الشرعي للنظام الذي يوافق عليه المجتمع الدولي، وبالتالي فإن الرئيس الأمريكي لابد وأن يبارك غارات القاهرة باعتبارها جولة في الحرب العالمية التي يتزعمها ضد الإرهاب، وقد بالغ ترامب في مباركته لدرجة إصدار بيان عن “روح شهر رمضان المبارك” مؤكدا عزمه على محاربة الإرهاب الذي يتنافى بشكل مباشر مع روح رمضان،  والواضح أن الموافقة على الغارات المصرية، كان دوراً مرسوما في خطة عسكرية وسياسية تمت الموافقة عليها في كواليس قمة الرياض، أو قبلها أثناء زيارة السيسي لواشنطن، التي أطلق فيها تصريحه المبهم عن “صفقة القرن”، أما نتائج محادثات الروس في القاهرة اليوم، فإنها لن تكون مؤثرة في طبيعة الموقف المصري المعقد الذي تتشابك فيه خيوط الأمن القومي المصري مع تصورات واشنطن التي تسمح بأدوار دولية متنوعة لتحقيق استراتيجيتها في النفاذ إلى أفريقيا ، فهناك استخدام لدور إيطاليا التاريخي في ليبيا، واستخدام للنفوذ الفرنسي في دول الفرانكوفون، وهناك حيلة “فتح الرقعة” أمام الدب الروسي للإيحاء بالمشاركة، مع تعطيله خطوات وراء اللاما الأمريكية الساعية لوضع يدها على مصادر الطاقة في القارة الموعودة بالنهب، ومن هنا كان ولابد من استخدام “ورقة الإرهاب” في الغرب (ليبيا) بدلا من الشرق (سيناء)

(5)

لا تصدق أن السيسي قد نجح في القضاء على القوة الضاربة للإرهاب في سيناء، فهرب إلى جسد المجتمع في الدلتا والصعيد، ولا تصدق أيضاً أن وجود مقاتلي “داعش” قد انتهى في سوريا والعراق، فبدأوا في التسلل إلى مصر (كما قال السيسي)، لكن “الصدفة” وحدها هي التي ساعدت على ترويج هذه المقولات الكاذبة، وهي التي أدت إلى توسيع نطاق العمليات الإرهابية خارج سيناء في عام الطواريء والانتخابات الرئاسية، حيث تزداد الحاجة إلى “نظام الضرورة”، وتزداد الحاجة إلى “فزاعات” أعلى صوتاً وأكثر رعبا، لأن حالة الخوف والشك والقلق من المستقبل، هي الحالة المثالية التي تقنع الكثير من الناس أن الحياة في بلد يعاني من الفقر والقمع والبطش.. “أحسن من سوريا والعراق”.

(6)

الخلاصة:

لا أستطيع الجزم أن السيسي “صانع للإرهاب”… لكن يمكنني القول إنه “يتاجر فيه”.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه