زهرة الأتراك المقدسة

فهي تعد زهرتهم المقدسة التى ينفقون الملايين إكراما لها

 
عشق الزهور والورود والارتباط بها عادة طبيعية موجودة لدى كافة شعوب العالم، إذ إن مجرد رؤيتها يولد بداخلنا طاقة إيجابية ويمنحنا قدرا من البهجة والسعادة، ما جعلها الهدية الأمثل التي لا تخذلنا أبدا؛ حيث بإمكانها عبر ألوانها وأشكالها وروائحها العطرة التعبير بدقة وفصاحة عما يجول في خواطرنا، وما يعتمر في صدورنا من مشاعر وأحاسيس نعجز عن التعبير عنها بالحروف والكلمات. إنها بحق خير سفير لمشاعرنا الإنسانية والعاطفية تجاه من نكن لهم الحب والتقدير. 
الزهرة المقدسة          
ورغم سعادتنا بالأزهار، واختيار كل منا لزهرته الأثيره لديه، والأقرب إلى قلبة دون سائر الزهور والورود ، فالمؤكد أنه لا يوجد منا من يقدس زهرته ويمنحها مشاعر فياضة، ويوليها اهتماما عظيما ، وينفق من أجلها ملايين الدولارات كما يفعل الأتراك. نعم عزيزى القارئ الأتراك يعشقون زهرة التوليب المعروفة لديهم باسم  “اللالاه”، فهي تعد زهرتهم المقدسة التي ينفقون الملايين إكراما لها، إنها بالنسبة لهم ليست مجرد زهرة جميلة تتفتح مع قدوم موسم الربيع في كل عام، إنها رمز للكثير من القيم والمعتقدات والموروثات التاريخية ، والمشاعر الراقية، فكما يعتقد الأتراك أن زهرة القرنفل ترمز إلى الصوفيين، فإن زهرة اللالآه لديهم هى رمز للخالق سبحانه وتعالى، حيث تمثل حروفها بالنسبة لهم حروف اسم ” الله” تبارك وتعالى، أما إذا قُرأ الاسم بالعكس يصبح “هلال” وهو الهلال الذى كان ولايزال يتوسط علم الدولة التركية، كما يعتبرها الأتراك ذوو التوجه الاسلامي رمزا لأكثر سنوات تركيا إزدهارا وقوة ومكانة، وهو عصر الدولة العثمانية التي اتخذت من أزهار التوليب شعارا رسميا لها، وهو الشعار الذى طبع على الكثير من الأماكن ، ونقش على أقمشة الملابس التي كانوا يرتدونها، وحتى على الأواني والاكواب والأطباق التي كانوا يتناولون فيها طعامهم . 
إذ انتشرت آنذاك زراعة زهرة اللالاه بكثافة داخل المدن التركية، خصوصا في مدينة إسطنبول حيث القصور والسرايات، والحدائق العامة والخاصة، التي زرعت فيها أزهار التوليب بكافة أشكالها وألوانها. 
الموطن الأصلي 
ويعود الموطن الأصلي لأزهار التوليب إلى شرق تركيا، وأواسط أسيا حيث جلبها العثمانيون معهم إلى مدينة إسطنبول وأكثروا من زراعتها، حتى باتت تزين قصورهم وحدائق كبار رجال دولتهم العلية، كما استُخدمت من جانب نساء القصور للزينة، إذ كان يتم وضعها على خصلات الشعر منفردة، أو يصنع من أزهارها تاجا تزين به رؤوس السلطانة والأميرات، الصغيرات منهن والكبيرات. 
وتحولت نتيجة لهذا الاهتمام إلى مصدر مهم من مصادر الإلهام الفنى في هذا العصر، فصانعو الأقمشة قاموا بتطريزها على ملابس السلاطين وأفراد عوائلهم، وصانعو  المجوهرات صنعوا من شكلها قطعا فنية رائعة الجمال، وزينوا بها الكثير من مجوهراتهم التي كانت تصنع للخاصة، أما الفنانون التشكيليون فرسموها في لوحات فنية زُينت بها حوائط قصور السلطنة العثمانية. 
 
عصر اللالاه
عشق العثمانيون للتوليب وهوسهم بها جعل المؤرخين يطلقون على عهد كامل من عهودهم اسم عصر التوليب أو ” عصر اللالاه “، وهو عصر السلطان أحمد الثالث ـ وذلك في القرن الثامن عشر. إذ فتن السلطان أحمد بزهور اللالاه وفاق إعجابه بها حد العشق والهيام، فأمر بزراعتها في كل مكان حتى غدت كافة أنحاء السلطنة متوجه بتلك الزهرة، كما أمر بإنشاء مجلس أعلى للزهور، كانت مهمته الأساسية الاهتمام بزراعة زهرة اللالاه ورعايتها والعمل على زيادة إنتاجها، ومن هنا أطلق على عهده ” عصر اللالاه “. 
ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم تحتل زهرة التوليب مكانة مقدسة لدى الأتراك وتتصدر اهتمامهم بالزهور والورود التي يزرعونها على كثرتها.  فهم لايعترفون بقدوم الربيع إلا إذا تفتحت زهور التوليب، واكتست بأزهارها وألوانها كافة ميادين وشوارع إسطنبول، التي يقام فيها مهرجان سنوي يمتد طوال شهر أبريل “نيسان” تحت رعاية محافظة إسطنبول للاحتفاء بتفتح زهور التوليب وقدوم الربيع. 
مهرجان سنوي
وهو المهرجان الذى يحرص الأتراك من كل المدن التركية على حضوره ، إذ يقطع بعضهم مسافات طويلة من مدنهم إلى إسطنبول خصيصا لرؤية أزهار التوليب والاستمتاع بالنظر إلى ألوانها الجميلة وشكلها الرائع المتناسق والمشاركة في مهرجانها ، الذى تتزين خلاله المدينة التاريخية بأكبر سجادة زهور في العالم يتم صنعها باستخدام أزهار التوليب الملونة ، وذلك في الحديقة الواقعة بين متحف آيا صوفيا ومسجد السلطان أحمد ، ويبلغ حجمها 1453 مترا مربعا وهو الرقم الذى يرمز إلى العام الذى تم فيه فتح مدينة إسطنبول على يد السلطان محمد الفاتح، حيث تم تغطيتها هذا العام بـ565 ألف زهرة توليب ، وهو نفس عدد السنين منذ تحول المدينة من عاصمة للإمبراطورية البيزنطية إلى عاصمة للإمبراطورية العثمانية ودولة الخلافة الإسلامية، حيث يتم إضافة زهرة جديدة إليه كل عام . 
كما يقام على هامش المهرجان معرض للرسم، ومسابقات لأفضل لوحة مرسومة وأفضل الصور الفوتوغرافية التي التٌقطت لأزهار التوليب، إلى جانب الأنشطة الموسيقية والرياضية، وعرض للأقمشة الحريرية والأقمشة المرصعة ببلورات كريستالية برسوم لزهرة التوليب. 
وليس غريبا أن تقوم محافظة إسطنبول بعمل مهرجان سنوى للاحتفاء بزهرة اللالاه، خصوصا وأنها تتخذ منها شعارا للمدينة التاريخية، حيث نشاهدها في العديد من شعارات معظم الفعاليات التي تشهدها إسطنبول  من معارض ومهرجانات ومؤتمرات ثقافية وسياحية ورياضية وفنية، وتستخدم التوليب كذلك في شعارات كلٍ من وزارتى السياحة والثقافة، كما تعتمدها الخطوط الجوية التركية رمزا لها. 
التوليب والحب
والتوليب هى زهرة الحب والمشاعر الفياضة والأحاسيس الراقية، ولكل لون من ألوانها المتعددة معنى ودلالة، فالأحمر منها يرمز إلى العشق والهيام والغرام، والأصفر يرمز إلى الحب من طرف واحد، حيث لا أمل فيه ولا فرصة لنجاحه، كما ترمز إلى الحب الذي فشل في الصمود ولم يستطع المقاومة للبقاء حيا. 
أما إهداء باقة من زهور التوليب الملونة، فإن ذلك يعنى أن مرسلها يريدك أن تعرف أنك صاحب أجمل عينين يمكن رؤيتهما أو النظر إليهما، من وجهة نظره على أية حال. 
تزرع زهور التوليب في أواخر فصل الصيف أو مع بداية فصل الخريف، ويتم قطفها في فصل الربيع، وهى من الأزهار التي تبقى نضرة وجميلة لفترة طويلة من الوقت. 
منها ما ينبت له ورقتان فقط، ومنها ما ينبت له أكثر من ذلك، وعموما لايزيد عدد أوراق زهرة التوليب على اثنتى عشرة ورقة، ولها مظهر خلاب يسحر القلوب ويأسر العيون التي لا تمل من النظر إليها، حيث تبدو وكأنها مغطاة بطبقة خفيفة من الشمع، ولأزهار التوليب عدة ألوان كالأبيض، والأحمر، والبنفسجي، والبرتقالي، والأصفر، والأسود. 
ويمكن أن تحتوي الزهرة الواحدة من التوليب على عدة ألوان مجتمعة، ويقال إن سبب تسميتها باسم توليب يعود في الأصل إلى الكلمة الفارسية ” تولبند ” والتي تعنى عمامة السلطان، وهو مايراه البعض متطابقا مع شكل زهرة التوليب. 
ولزهرة التوليب حياتان،حياة فوق الأرض تنتهي بالأزهار ذات الألوان الجميلة التي تبهجنا، وتمدنا بطاقة إيجابية عند النظر إليها، وحياة تانية تنتهي بتكوين الأبصال الجديدة التي يتم جمعها ووضعها في مبردات بدرجات حرارة معينة طوال فصل الصيف حتى تصبح صالحة للزراعة مع قدوم فصل الخريف. 
 التوليب والجمهورية 
وتحكى بعض الروايات أنه في القرن الثامن عشر اندلعت انتفاضة غاضبة في أرجاء الدولة العثمانية أتت على كل حدائق التوليب في إسطنبول، واختفت الزهرة من كافة أرجاء المدينة منذ ذلك اليوم ولفترة طويلة من الزمن ـ عدا القليل مما كان يزرع داخل حدائق القصور وبعض السرايات ـ ومع عصر الجمهورية التركية لم يعد للتوليب مكان بين الزهور التي تقوم الدولة بزراعتها عموما سواء تلك التي تستخدم في تزيين الحدائق العامة أو المتنزهات، وكذلك التي تزرع في ساحات الأبنية الحكومية وداخل المدارس والجامعات. 
عودة مبهجة
لكن مع قدوم حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا ، تم وضع خطة عاجلة لإعادة التوليب مرة أخرى إلى الواجهة لتحتل مكانتها التاريخية والروحية التي لا ينافسها فيهما أياً من الزهور والورود الاخرى، وتولت بلدية إسطنبول مسؤولية عملية الإحياء تلك  عبر زراعتها بكثافة كبيرة  كما أطلقت حملة واسعة لدعم عودتها مجددا إلى شوارع وميادين المدينة ، وذلك من خلال المهرجان الذى يقام على شرفها سنويا، حيث يتم الإعلان عنه بكثافة لاتخطئها العين، ففي كل شارع وميدان تقع عيناك على اللافتات التي ترحب بنيسان/أبريل شهر التوليب، وتدعو المواطنين والزائرين إلى المشاركة فيه احتفالا بالزهرة المقدسة، التي أعادت لحياتهم البهجة والجمال والاحساس بالفخر كون التوليب تذكرهم بأنها زهرة أجدادهم الذين حكموا العالم يوما ما  . 
ويتم العمل حاليا على زيادة عدد المزروع من زهور التوليب سنويا بهدف تصديرها إلى الخارج لتذكير العالم بأن تركيا هى الموطن الأصلي للتوليب رمز الحب والجمال والعشق الإلهي، وأنها زهرة الأتراك المقدسة.   

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه