رمضان في ألمانيا

 صلاح سليمان*

أكثر من أربعة ملايين مسلم يعيشون في ألمانيا،  يحتفلون كل عام  بصيام شهر رمضان ،  ويمارسون طقوسهم الرمضانية اليومية وفقاً لعاداتهم في بلدانهم الأصلية،  ورغم ساعات الصيام الطويلة والاختلافات الموجودة ، إلا أنهم  يسعون لتهيئة  نفس الأجواء الرمضانية التي عاشوها في بلدانهم من قبل وتوريثها لأبنائهم من بعدهم .
فرضت الأوضاع السياسية التي تعيشها البلدان الإسلامية نفسها على حياة المسلمين في ألمانيا هذا العام، وأصبح الهم السياسي في تلك البلدان قاسماً مشتركاً يجمع بينهم في أحاديثهم اليومية علي مائدة الإفطار، فالعالم العربي يموج بثورات وتقلبات سياسة  قسمت أبنائه وفرقت أطيافه ودفعت بالكثير من الشباب إلى الهجرة،  خاصة في السنوات الأخيرة التي شهدت نسبة نزوح جماعية كبيرة إلى ألمانيا  قادمة من دول إسلامية عديدة  مثل سوريا والعراق وباقي دول الربيع العربي.
وفق تقارير الحكومة الألمانية ، فإن نسبة المسلمين في ألمانيا تنمو بشكل متزايد منذ عام 1970 وحتي الآن،  وتختلف كثافة  توزيعهم في البلاد باختلاف المناطق التي يعيشون فيها،  ففي شمال ولاية الراين وستفاليا يعيش ثلث عدد المسلمين في ألمانيا،  والبقية تنتشر عبر ولايات ومدن ألمانيا المختلفة .
الجالية المسلمة في ألمانيا تعتبر ثاني أكبر جالية وهذا ما دفع  المستشارة الألمانية ميركل في وقت سابق  إلى التصريح بأن الإسلام يعتبر جزء من ألمانيا،  ورغم أن التصريح فتح جدلا كبيراً بين  السياسيين الألمان،  إلا أن حقيقة اعتبار أن المسلمين جزء من نسيج هذا المجتمع يؤكد الواقع فعلاً،  فالمسلمون بعددهم ووجودهم وفاعليتهم هم جزءً لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع .
 عرفت ألمانيا الوجود الإسلامي على  أراضيها  في القرن الثامن عشر الميلادي في عهد القيصرية الألمانية  وعلاقاتها مع الإمبراطورية العثمانية آنذاك،  وكان عددهم في البداية قليلاً،  لكنه تنامي فيما بعد، وفي نهاية الحرب العالمية الأولي عاش في برلين حوالي خمسة عشر ألف أسير حرب مسلم،  شكلوا  فيها     النواة الحقيقية للوجود الإسلامي في ألمانيا عندما قاموا بإنشاء جمعيات إسلامية ومساجد للصلاة  في برلين .
هذا الزخم الإسلامي في ألمانيا جعل من شهر رمضان شهراً مختلفا ًعند المسلمين،  ورغم اختلاف اللغة والثقافة بين الجاليات المسلمة نتيجة تعدد قومياتهم،  إلا أن الشهر الكريم وحدهم في الصيام والصلاة والاجتماع حول موائد الإفطار العامرة والمساهمة في أعمال الخير.
في مدينة ميونيخ علي سبيل المثال يعيش اكثر من مئة ألف مسلم يقومون بإحياء المشاعر الدينية الفياضة في هذا الشهر، ويؤدون صلاة التراويح في عدد كبير من المساجد الصغيرة المنتشرة وسط  أحياء العرب والمسلمين في المدينة ، وتتبع هذه المساجد الأقليات المسلمة المتعددة مثل الجالية البوسنية  والأتراك والمصريون والإيرانيون والمغاربة والتونسيون والإرتيريون وغيرهم من جنسيات مسلمة كثيرة تعيش في هذه البلاد.
لقد خلق هذا التنوع الكبير في عادات وثقافات المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا نمطا من الحياة الثقافية المميزة،  ورغم اختلاف الألمان الثقافي والعقائدي مع تلك الجاليات إلا أنهم يعجبون بذلك خاصة في شهر رمضان الذي يوحد الجميع.
في  المركز الإسلامي الكبير في منطقة “فراي مان” تقوم الجالية المسلمة بإحياء مشاعر الشهر الكريم بإقامة مائدة رحمن كبيرة تتسع للمئات،  أما المسجد البوسني فهو يقدم إفطاراً جماعياً كل يوم سبت، وتقوم المساجد التركية بعد صلاة التراويح بتنظيم محاضرات دينية وأنشطة ترفيهية ، وتأتي  كل تلك الأنشطة مجتمعة في محاولة لمحاكاة  شهر رمضان في  البلاد الإسلامية.
كل شيء يخص رمضان من أطعمة ومشروبات مميزة مثل قمر الدين والعرقسوس والتمر هندي يمكن شراؤها بسهولة من المحلات التركية والعربية المتجاورة في أحياء الأتراك والعرب في الكثير من المدن الألمانية .
كثير من المطاعم العربية والمقاهي التي تقع في أحياء المسلمين في ألمانيا تشهد إقبالاً من الجاليات المسلمة في رمضان، خاصة في عطلة نهاية الأسبوع ،  فالديكورات علي واجهات المحلات تجذب الزبائن ، والمطاعم توفر الوجبات الشعبية  الرمضانية كالفلافل والفتة المصرية والحمص الشامي وحلويات رمضان كالكنافة والقطايف والمشروبات  كالتمر هندي والعرقسوس .
تصبح حركة البيع والشراء على أشدها قبل ساعات الإفطار، فالناس حريصون علي الاستمرار في عادتهم الشرائية الرمضانية كما يفعلون في بلدانهم الأصلية حيث يشتهر هذا الشهر الكريم بالموائد العامرة والكرم. أما مشكلة اللحوم الحلال فهي ليست مستعصية في ألمانيا إذ توفر محلات الأتراك والعرب كل أنواع اللحوم المذبوحة وفق الشريعة الإسلامية.
ليس هناك استثناءات في  أماكن العمل للعاملين المسلمين في شهر رمضان  في ألمانيا،  لكن الصعوبة تكمن في طول عدد ساعات الصيام التي تصل إلى اكثر من 16 ساعة يومياً، ورغم أن الطقس يكون في الغالب معتدل أو مائل للبرودة ، فإن  الكثير من المسلمين يفضلون الحصول علي أجازتهم السنوية في هذا الشهر،  خاصة عندما يأتي رمضان في فصل الصيف،  لكن  رغم كل الصعوبات  ووقت الإفطار المتأخر في الساعة التاسعة والنصف مساء إلا أن الصيام فرض وواجب يؤديه مسلمو ألمانيا بكل سعادة وسرور .  

__________________

*كاتب مصري مقيم في ألمانيا 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه