رفقاً بـ حماس: استسلام أو واقعية!

أية قراءة لما فعلته حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة تحمل جانباً من الصحة، سواء من رآها أذعنت واستسلمت، أو من اعتبرها واقعية وقامت بخطوة ذكية للخلف، أو من فسر سلوكها السياسي بأنه يقظة منها للشعرة الدقيقة الفاصلة بين الاستسلام والواقعية، وأنها لعبت عليها بمهارة سياسية.

التفسيرات المختلفة هنا جائزة، لجهة أن حماس تحكم قطاع غزة، وتتحمل مسؤوليته الضخمة طوال عشر سنوات من الحصار الخانق، وتعرضت مع غزة لثلاثة اعتداءات إسرائيلية غاشمة، خلفت شهداء وجرحى بالألوف، بجانب الدمار الهائل في بيوت المواطنين وعقاراتهم والبنية الأساسية والخدمات في القطاع شبه المنهار أصلاً، وفي النهاية لا تقطف ثمرة، وتتخلى عما كانت تتمسك به، وتوافق على عودة غزة لإدارة السلطة بقيادة الرئيس محمود عباس، كما لم تستفد القضية الفلسطينية شيئاً، بل تضررت بشدة من الانقسام العبثي، فماذا يمكن أن يُسمى ذلك غير أنه استسلام؟

الحق في الحكم

ومن يعتبر أن حماس دافعت قبل عشر سنوات عن كيانها ووجودها كحركة مقاومة وطنية كان يُراد إنهاء أو تحجيم وجودها العسكري والسياسي. كما دافعت عن حقها في الحكم باعتبار أن الديمقراطية منحتها الأغلبية لقيادة الشعب الفلسطيني عبر انتخابات نزيهة شهد لها العالم. لكن إسرائيل وقفت ضد نتائج الصندوق، وهي التي تدعي أنها الديمقراطية الوحيدة في صحراء عربية واسعة من الاستبداد، واشترطت على حماس تنفيذ شروط قاسية حتى تقبل بنتائج الانتخابات وتعتبرها شريكاً في السلطة في صورة أخرى قبيحة وفجة لاحتلال مفرط في الصفاقة والإجرام. وبالتالي كان خيار الدفاع عن الذات لا مناص منه بحكم المضطر وليس الراغب في ذلك. ثم اليوم يأتي تقدير الموقف الداخلي والخارجي ليفرض عليها أن تكون واقعية، وتقدم بعض التنازلات بكرامة، وهو ما فعلته حينما دعُيت من القاهرة مرات، وجلست مرات على طاولة واحدة مع المصريين. وفي المرة الأخيرة ناقشت وتفاوضت باستفاضة وحصلت على الضمانات اللازمة. وهي لم تذهب لمصر حاملة كفنها على يديها، بل ذهبت باحترام وعُوملت بالتقدير اللائق. واستقبال قائدها إسماعيل هنية لمدير المخابرات العامة المصرية في مكتبه بغزة، ولغة الخطاب السياسي الرسمي المصري الجديدة، وبرفقته الحديث الإعلامي الودي عن حماس يؤكد أنه لم يكن هناك استسلام منها بمعنى الهزيمة، إنما حصلت تفاهمات أنتجت حلولاً مقبولة. واللغة عندما تنتقل من النقيض التخويني للحركة واعتبارها إرهاباً ضد مصر، إلى كونها الشقيق الفلسطيني الشجاع الحريص على المصلحة الوطنية الفلسطينية، والأمن القومي المصري، فإنها تشير لكون حماس لم تخرج خاسرة أو ذليلة. ومن هنا من يقول إنها كانت واقعية ولم تقطع الشعرة التي تفصلها عن السقوط في هوة الخضوع والتسليم يكون محقاً أيضاً.

وفي جوهر المسألة فإن حماس كحزب سياسي – دعنا من الجناح العسكري فله وضعه الخاص – عندما تصدى للحكم صار نظاماً حاكماً يجري عليه ما يجري على كل الأحزاب والأنظمة العربية الحاكمة من أمراض سياسية، فهي ابنة تلك المنطقة من العالم التي تغيب عنها السياسة وأصول الحكم والديمقراطية وثقافة الحوار وتقبل الآخر والعمل على استئصاله والاستبداد، لكن يُحسب لحماس أن مواجهتها لإسرائيل سياسياً وعسكرياً، وتعرضها لضغوط هائلة عربياً ودولياً، ومحاولاتها الحثيثة النأي بنفسها عن الصراعات العربية حتى لا تكون طرفاً فيها فتلحق بها أضرار الأطراف الأخرى، وتحملها مسؤوليات شعبية جسيمة في صندوق مغلق بإحكام على ما يقرب من اثنين مليون نسمة اسمه قطاع غزة، كل ذلك وغيره جعل عقلها السياسي متحركاً ونشطاً ومفكراً ومرناً باستمرار، تخففت كثيراً من جمود وأحادية العقل السياسي العربي، كما تخففت من قيود الأيدلوجية الفكرية التي تعتنقها، وبدا ذلك في وثيقة المراجعة السياسية، وفي التعاطي الإيجابي مع النظام المصري الذي يحارب الجماعة التي ترتبط بها حماس فكرياً وتنظيمياً.

الاحتياج

وكما احتاجت حماس للقاهرة كوسيط وضامن مع حركة فتح والسلطة الوطنية، وضامن على مستوى أكبر عربياً ودولياً، ومع إسرائيل وأمريكا خصوصاً، فإن مصر كانت بحاجة لحماس في قضية الأمن على الحدود بينها وبين غزة في سيناء حيث تنشط خلايا تابعة لتنظيم داعش توجه ضربات للشرطة والجيش في مواجهات مستمرة منذ عدة سنوات، كما تحتاج مصر لحماس في ملاحقة العناصر المتطرفة داخل غزة التي تمثل امتداداً وحواضن لخلايا سيناء، وضبط الحدود من الجهتين لن يكون فعالاً ما لم تكن هناك سيطرة أمنية قوية وفرز دقيق للعمق على جانبي خط الحدود.

ومصر بحاجة لحماس أيضاً في تجاوبها معها وتنازلاتها المحسوبة لأجل إحراز تقدم في الملف الفلسطيني الذي تتحمل مسؤوليته، وطوال سنوات الانقسام الفلسطيني لم تنجز فيه شيئاً، والنظام يريد إنجازاً قبل أشهر من انتخابات الرئاسة يقدمه للخارج، ويستفيد منه في الداخل المثخن بجراح الأزمات المتزايدة.

والتحالف الرباعي المقاطع لقطر أراد أن يستفيد من ظرف المقاطعة والحصار بأن ينتزع من الدوحة ورقة حماس وغزة، فالقطريون في السنوات الأخيرة يتحملون تقريباً مسؤولية القطاع مالياً وخدماتياً وإعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي، وهو الدور الذي ساهم في تخفيف آثار الحصار المشدد، وجعل القطاع بسكانه على قيد الحياة دون أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يكن هناك من حضن عربي دافئ لغزة  وحماس غير الدوحة بعد أن غادرت الحركة دمشق لرفضها سحق شعب يطالب بحريته، وبالتبعية توترت علاقاتها مع إيران، كما أن العلاقات تأزمت مع مصر بعد الإطاحة بالإخوان قبل أكثر من أربع سنوات رغم أن التواصل لم ينقطع، حصار سياسي ومالي واقتصادي وعسكري لغزة وحماس داخليا وخارجيا، ومن سلطة رام الله أيضاً، الغزيون يستحقون شهادة عالمية في الصبر والثبات.

من يرفض ذلك؟

إذا كانت إزاحة قطر من ملف غزة رغبة أطراف عربية، فليتحملوا هم إذاً كل تبعات هذا الملف، ويقدموا مختلف أشكال الدعم للقطاع والسلطة، ويفتحوا معبر رفح باستمرار، ويضغطوا على إسرائيل لفتح معابرها، ويعيدوا تجهيز ميناء ومطار غزة لتعود الحياة إلى هذه المنطقة التي تعيش أوضاعاً مأساوية، وأتصور أن أي عاصمة عربية سترحب بالمصالحة الوطنية الفلسطينية، واستعادة الغزيين لحياتهم الإنسانية الطبيعية، واستئناف المفاوضات، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، من يمكن أن يرفض ذلك؟، المهم من يقدر على نتنياهو وحكومته المغرقة في التطرف لجعله يرفع الحصار، ويوقف الاستيطان، ويدخل في مفاوضات جادة ؟، ومن يضمن راعياً أمريكياً نزيهاً عادلاً مثل ترمب الذي هو ليكودي صهيوني أكثر من نتنياهو، ووزير حربه ليبرمان، وبقية متطرفي حكومته؟

كافحت حماس على قدر ما استطاعت طوال عشر سنوات من الانقسام الذي لم يقبل به أحد، وكانت مخطئة فيه مثل حركة فتح تماماً، وقد تحمل معها السكان البائسون خطيئة الانقسام، وجرائم الاحتلال، وحصاره البري والبحري والجوي لغزة، وغلق المعابر إلا استثناءات في المناسبات والحالات الإنسانية، وفاقمت إجراءات عباس الأخيرة من المصاعب بقطع الرواتب عن الموظفين في القطاع، وتحريضه إسرائيل بعدم مد محطة الكهرباء الوحيدة بالطاقة اللازمة لتشغيلها، وفي ظل الأزمات العربية، والاقتتال الأهلي، والحرب على الإرهاب، وحساسية موقف الحركة مع مختلف الأطراف، فمن لم تكن معه، يعتبرها عدواً له، وإذا طلبت العون من عاصمة جرى اتهامها من عواصم أخرى، والظرف الدولي بعد انتخاب ترمب لم يعد مواتياً، ففي الرياض وأمام القمة العربية الإسلامية صنف حماس في خانة الإرهاب مع جبهة النصرة وحزب الله، وبالتالي تكون الواقعية في المراجعة خلال اللحظة المناسبة، أولاً عبر وثيقتها السياسية الجديدة، ثم التخلي عن إدارة غزة، وترك السلطة تتحمل مسؤوليتها.

الحكمة هنا أنه ليس بالصندوق الانتخابي وحده تستطيع أن تحكم، أو أن تكون شريكاً في الحكم، فإذا كنت حزباً في دولة مستقلة ذات سيادة، أو كنت رئيساً منتخباً، فلابد من قبول داخلي من المؤسسات والأجهزة والمكونات الوطنية، وقبول خارجي من القوى الكبرى صاحبة القرار والنفوذ، وتجربة الإخوان في مصر خير دليل، فما بالنا عندما يتعلق الأمر بحركة مثل حماس تعتبرها إسرائيل العدو الأول، وتصنفها إرهابية، وتضعها على قائمة الاستهداف المتواصل، وعندما يكون هذا الفوز في مناطق تخضع للاحتلال الأكثر شراسة على مدار التاريخ، وتكون واشنطن وأوروبا خاضعة لابتزاز تل أبيب، والأنظمة العربية متوجسة من حركة ذات خلفية إسلامية إخوانية، هنا يكون الصندوق عبئاً ثقيلاً، ويكون الحكم أصعب من البقاء خارجه.

عرقلة المصالحة

واليوم، ورغم تراجع حماس للخلف، وترك الساحة للسلطة، فإن هذا المحتل يعرقل المصالحة أيضاً، ويضع شرطاً لإفشال أي مسعى للتقدم للأمام، وهو نزع سلاحها.

أي استسلام إذاً يمكن الحديث عنه أمام خيارات كلها مرة سواء اليوم، أو قبل عشر سنوات، ومع ذلك فليكن استسلاماً، المهم المصلحة الوطنية الفلسطينية، والشعب المسكين، والأرض المحتلة، والمقدسات التي يجري تهويدها، والأرض التي يتم التهامها لبناء المستوطنات عليها، فلنترك ما يسمى بتيار الاعتدال العربي يأخذ فرصته كاملة، ولنرَ ماذا سيفعل بعد إزالة كل العوائق من أمامه، ونجاحه في مساعيه سيصفق له العرب والمسلمون جميعا، المهم عدم التفريط في حقوق عادلة ومشروعة وتاريخية ومقدسة.

t

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه