رجع الوارث لعادات الموروث

وحدث ما حدث بعد الثورة، من مناورات ومؤامرات عشناها كلنا وتورطنا فيها كلها، ولا أبرئ أى فصيل أو فرد من التورط فيها بسوء نية أو بسلامة نية، وانتهى الأمر لتحقيق نبؤة مبارك.

 

محمد منير*

    منذ أيام قليلة أطلق ضابط رصاصات من مسدسه الميرى تجاه مواطن لأنه وقف بسيارته أمام منزله، فأصابه إصابة بالغة فى قدمه!!!

منذ أكثر من أربع سنوت وتحديدا فى يناير 2011 خرج الشعب المصرى فى ثورة شديدة يرفض النظام القائم، وينادى بالحرية والتغيير والكرامة الإنسانية.

وإذا كان التطور التكنولوجى فى وسائل الاتصالات قد سهل التواصل بين الغاضبين فإن اللبنة الأساسية التى أدت لغضب المصريين كانت تتعلق بانتشار الظلم والبطش والتعذيب الذى كان يعانى منه المصريين على يد قوات الشرطة، هذا بالإضافة إلى أن بقية أحوال المصريين لم تكن على مستوى مغاير؛ فقد كان المصريون يعيشون هذه الفترة حالة من الانهيار على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، وغرق فى بحر من الفشل فى التعليم والصحة والثقافة، فانتشرت الأمية وانهارت الحالة الصحية للمصريين، وتدهور المستوى الثقافى والعلمى، وتراجع مركز مصر فى هذه المجالات وهى المجالات التى كانت تتصدر الريادة فيها.

وحدث ما حدث بعد الثورة، من مناورات ومؤامرات عشناها كلنا وتورطنا فيها كلها، ولا أبرئ أى فصيل أو فرد من التورط فيها بسوء نية أو بسلامة نية، وانتهى الأمر إلى تحقيق نبؤة الرئيس المخلوع حسنى مبارك ” إما أنا أو من دونى الفوضى”، مع تعديل ليس جوهرى لتتحول المقولة المشهورة الى “إما النظام العسكرى أو الفوضى”، وعاد النظام القديم غلى الحكم برداء عسكرى واضح بعد أن خلعة ظاهرياً خلال حكم ثلاث رؤساء سابقين.

 وإذا كانت الدعاية الجماهيرية للنظام العسكرى فترة حكم عبد الناصر هى القضاء على الإقطاع وإقامة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وفى فترة حكم السادات كانت دولة العلم والإيمان، وفى الفترة المباركية كانت الاستقرار، ففى هذه الفترة الأمن والآمان والاستقرار، وبعد أكثر من عام ، هل حدث هذا أم سينضم شعار هذه  المرحلة الى قائمة التكهين مع شعارات الفترات السابقة؟

الحقيقة أن الأمن الذى عاد لمصر فى هذه الفترة هو حالة وهمية تستند على مقارنة بين هذه الفترة وفترة مابعد ثورة2011، والذى كان الانهيار الأمنى فيها مدبرا بإحكام، وتُمارس حوله الدعاية للوصول الى ما وصل إليه الآن، ومع ذلك لا يزال المواطن يعانى من حالة اللآمان فى الطرق، ومازالت الأعراض معرضة للانتهاك.

كما أن هذه الفترة تعد فترة مثالية للنصابين وتجار توظيف الأموال للنصب على المواطنين، فزادت حوادث النصب وزادت حوادث السرقة بالإكراه فى الشوارع، وكان آخرها سرقة مكافأة نهاية الخدمة لأحد الموطنين علنا وفى وسط النهار من أمام أحد البنوك، وارتفعت نسبة اغتصاب الفتيات، وزاد عدد البلطجية فى الشوارع ووصلت فوضى المرور وحوداث الطرق إلى مدى لم تشهده مصر من قبل، وأصبح الولوج لقسم الشرطة لطلب الحماية من المخاطر أخطر من هذه المخاطر ذاتها، وعلى المستوى الاقتصادى، ورغم الدعاية التى مارسها الإعلام السلطوى فى مصر ، ازداد الفقراء فقراً وزاد الأغنياء ثروة .

الميزة الحقيقية لهذه المرحلة هى أن الخريطة الطبقية لمصر أصبحت أكثر تحديداً ووضوحاً، وتميز فيها معسكران: معسكر المعاناة ومعسكر الرفاهية؛ فأصبح فى مصر من ينتقل إلى منزله بالطائرات، والسيارات المكيفة، ومن يمتطى حذاءه البالي ليسير الكيلومترات وسط المخالفات والقاذورات ومياه المجارى، وأصبح لمجتمع الأغنياء أسوارا تحميهم من رائحة الفقراء، وأمراضهم وعيونهم الحاسدة، فى حين يعيش الفقراء عرايا بلا أى ساتر للأجساد والنفوس والكرامة .

 أما الشرطة فقد عاد الوارث إلى عادات الموروث، عاد الموت تعذيبا إلى حجوزات الشرطة، وأصبحت مشاهد تعذيب المواطنين فى الشوارع أكثر وضوحا، وأصبح نموذج أمين الشرطة “حاتم” فى فيلم خالد يوسف ” هى فوضى”، هو النموذج السائد فى المجتمع من بلطجة وفساد وعنف، وعلينا أن نقبل هذا وإلا المقابل الفوضى المصطنعة التى سبق وأن ذقنا مرارتها، وعلى مستوى الإعلام والثقافة والصفوة المتعلمة أصبحت القوادة هى المؤسس الأول لصعود القيادات فى هذا المجال .

وكما قلت فإن هذه المرحلة تميزت بتحديد الخريطة الطبقية ووضوحها، ولهذا فإن الثورة القادمة ستكون أكثر وضوحاً وتحديدا وستفرز قيادات لهذا المجتمع واضحة الهدف، وستفرز أدوات بديلة لأدوات هذا النظام فى كل المجالات، وسيحكم الشعب نفسه بنفسه دون أن يرث أدوات الأنظمة السابقة .. ولهذا لامجال لليأس من آلام الجروح والمعاناة ، فكما قال الأديب نجيب محفوظ فى إحدى روايته ” فآلمه الجرح فآمن أنه آخذ فى الالتئام “

____________________

*كاتب وصحفي مصري

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه