راية حمراء فوق الاتحادية

لهذا السبب تبدو الحرب ثقيلة على أشرف الخولي وأمثله من الكسالى العاجزين المنهزمين في داخلهم.

(1)

أشرف الخولي ليس رجلاً، أشرف الخولي مرحلة، والإعلاميون الذين تسربت روائحهم العفنة، نعرفهم منذ زمنٍ، لما تراكمت صورتهم في أحيائنا العشوائية وعرفناهم بالاسم كمقالب نفايات و”خرابات” تمارس فيها ومن خلالها الأنظمة سلوكيات الفاحشة.. القصة إذن ليست جديدة ولا مفاجئة، ومع ذلك لايمكننا أن نمنع الناس من الكلام عن الأشياء القديمة المعروفة للجميع، خاصة لو انتهت هذه الأشياء والسلوكيات إلى فضايح أو جريمة.

(2)

الولد الذي طعن أمه، والبنت التي صارت “صديقة الطلبة”، كانوا في يوم من الأيام “عيالاً لطفاء”، كل ما حدث كان بسيطا، كان معروفا، كان محلاً للنقاش والنصح والشجار مرة بأمل الإصلاح، ومرات بغرض التحذير والردع، لكن التطلعات تتضخم والأوهام تتحكم، بينما تضمر العقول وتتراجع الأخلاق، وتتسع المسافة رويداً رويداً بين الواقع الشحيح والأمنيات المموهة بالغوايات، شلة السوء، الهواء الملوث بالهزيمة، الأفق المسدود بإسمنت الفساد، الزلة الأولى.. لا فرق إن كانت “سيجارة مفخخة” أو “قبلة شبقية” سبقتها هدية تُبَّرِد نار الحرمان، أو “نزهة مخططة” في سيارة هادئة بعيداً عن “حشرة الميكروباصات”، حيث يغيب الواقع البائس خلف جدران من المرح والموسيقى المخدرة.

بعدها يعلو صوت الولد في البيت ناقماً، ولاعناً الظروف.. والأهل بالمرة، وتتغير سلوكيات البنت.. المواعيد.. الملابس.. العطور.. اللغة.. نظرة العين، وعندما يتهامس الجيران وتتكاثر المشاكل في البيوت، يزداد الغضب وتزداد النقمة مع إخفاء التحولات بالإصرار على الإنكار: “انتو (أنتم) اللي غلط.. حياتكم اللي غلط.. انتو مش عايشين.. الحياة مش هنا.. الحياة بره، شوفوا الناس عايشة إزاي.. صاحبي.. صاحبتي، كفاية بقى.. كفاية قرف.. ارحمونا من مواعظكم”. ومع كل مواجهة بمظاهر السقوط والتحولات يتكرر الإنكار، حتى يأتي وقت لابد فيه من الاعتراف بالوقائع التي لم يعد من الممكن إنكارها، وهكذا تتحول “حيلة الإنكار” إلى حيلة أخرى هي “التبرير”: هنعمل إيه؟.. لو معملناش كده مش هنقدر نعيش،/ ومش هنعرف نستمر في الجامعة، والناس هتضحك علينا .. هيفعصونا ونبقى مسخرة.. إحنا مش قدهم.. انتو عاوزينا ندخل حرب إحنا مش قدها؟

(3)

الانكشاف في أزمنة الهزيمة لا يؤدي إلى الخجل، والرغبة في الإصلاح، والعودة إلى الحياة القويمة أو القديمة، لكن “المنهزم” يجد في “السقوط” فرصة عظيمة لممارسة سقوطه بشكل علني.. باعتباره “حرفة”.. باعتباره “واقعية”، فيتحول “المدمن” من “ضحية” إلى “ديلر” يتاجر في الهزيمة ويروج للسقوط، وتتحول البنت إلى “ساقطة” ترتزق من التفريط، وتبيع شرفها بالجملة أو بالقطاعي. وكما كتب يوسف إدريس في “بيت من لحم” يصبح “التواطوء” دستوراً موقراً بين الساقطين، لأنهم يضمن لهم التعايش كحشرات قادرة على الحياة تحت ضغط الظروف وبرغم فساد البيئة المحيطة، لقد صار الساقطون “دولة”، ولابد لأي دولة من اختراع لغة خطاب ومنظومة علاقات تصنع لهم احتياجاتهم من الملطفات التي تسمح لهم بحياة ولو كانت زائفة، وبالتالي لا يصبح هناك فرق بين إدمان “الولد” وإدمان “الدولة المهزومة”، فكلاهما يتعاطى المخدرات لمواجهة الواقع الصعب، ولا يصبح هناك فرق بين انحراف “البنت” وانحراف “الدولة الساقطة”، فكلاهما ينام مع من يدفع ثمن الليلة أو “ثمن الصفقة”، حتى لو كان النوم مع العدو.

(4)

 في مخطوطة ساسانية قديمة، رأيت رسماً لفتاة فارسية رشيقة تقف في حديقة قصر فخم، وهي تحمل بقرة ضخمة لأعلى، كما يحمل لاعب الأثقال أوزانه، وفي القصة المصاحبة التي شرحها لنا الدكتور حسن الباشا، أن الفتاة كانت بنت كسرى الفرس، وكانت تسمع والدها يفرق بينها وبين الرجال ويتمنى لو أنجب ولداً يصلح للحكم، لأن النساء ضعيفات ولايستطيعون القيام بمهام الرجال من قتال وحزم، وأرادت البنت أن تثبت لوالدها الملك أنها لا تقل قوة عن الرجال لو أرادت، ففاجأته ذات صباح بهذا المشهد المثير للتساؤل: كيف فعلت هذا؟

الإجابة في صميم موضوعنا لكشف تهافت وتفاهة مبررات الخولي وأمثاله من مسؤولي “الدولة الساقطة”، فقد قالت البنت المقاومة لوالدها الملك: الحكاية بسيطة: مجرد تدريب وإصرار ومتابعة، فقد جاءتني الفكرة ذات يوم، عندما شاهدت البقرة تلد عجلاً صغيراً، فحملته بين يدي، ووجدته خفيفا استطيع حمله، وبعد أسبوع عندما عدت لحمله وجدته أثقل وارهقني حمله، وخفت أن يكون كلامك صحيحا، فأعيش معترفة بضعفي، وفكرت أن الأسبوع الذي مر من دون أن أحمل “العجل” جعلني غريبة عن حمله، حيث زاد الحمل ولم تتطور قوتي، فاتخذت قراري بأن أنزل كل يوم إلى الحظيرة وأحمل “العجل” عدة مرات لمدة ساعة، وكان الوزن يتزايد تدريجياً، فلا أشعر بالفرق الكبير بين اليوم والذي يليه، لأنني أحمل كل يوم جديد أقل من كيلو غرام واحد، بينما لو فات عام مثلا دون أن أقوم بواجبي، فهذا يعني أن أحمل فجأة أكثر من 300 كيلو غراماً، وكانت النتيجة ما رأيته يا أبي: بالتدريب والتدريج والانتظام يمكننا تحمل الكثير مما لا نستطيع حمله وتحمله لو انقطعنا عن حمل المسؤوليات التي يتوجب علينا حملها.

(5)

لهذا السبب تبدو الحرب ثقيلة على أشرف الخولي وأمثاله من الكسالى العاجزين المنهزمين في داخلهم، ولهذا تبدو أعباء الحكم صعبة على الخانعين الذين يبررون “نومهم مع العدو” بحجة صعوبات الحياة، والمؤسف أن الفاحشة خرجت من مرحلة الإنكار إلى مرحلة “البجاحة” والإعلان عن البضاعة المربحة بالترويج العلني لها، والانتقال الى مرحلة “الاحتراف”، إذ أصبح للساقطة “سوسو صديقة الطلبة” عنوانا و”كروتا” مطبوعة، وأسعاراً حسب السوق، لهذا فكرت في إنهاء حقبة الصفقات السرية، واللعب على المكشوف في “صفقة القرن”

(6)

كلب النظام الذي يقول: “إن القدس مثل رام الله”، يتحكم في شعبٍ يقول: “صوابعك مش زي بعضها”.

(7)

المقال لا يراهن على إصلاح الساقطين، ولا يكتفي بفضحهم، لكنه يرفع الراية الحمراء على مساكنهم وأفكارهم، حتى نعرف بيوت الشرفاء من بيوت البغايا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه