“رابعة”.. شاهدة عيان!

في دقائق معدودة سقط بجواري (بينما لم أغادر مكاني بعد) عشرات الرجال بين شهيد وجريح، رؤوس متفجرة ورصاصات تخترق العظام وتتجاوزها ، وأطراف مفصولة تماما

 

الرابع عشر من أغسطس تعاودنا ذكرى أكبر مجزرة عرفها التاريخ الحديث في مصر وبلاد العرب، حيث نفذت ميليشيات عبد الفتاح السيسي علي مرأى ومسمع من العالم عملية فض الاعتصام السلمي بميداني رابعة العدوية والنهضة والتي راح ضحيته الآلاف بين شهيد وجريح ومختطف

وبما أنني كنت شاهدة عيان على ما حدث في تلك المجزرة، فقد سطرت بعض ما رأيته كشهادة أمام الله وأمام التاريخ، وتوثيقا لجريمة لا يمكن أن تتوه في ذاكرة الشعوب حتى يتم القصاص الكلي من القتلة وممن حرضوا على القتل.

ليلة مشهودة

تحركنا في مسيرة كبيرة جابت الميدان يقودها الدكتور “صفوت حجازي” استمرت لأكثر من ساعتين حتى وصلنا للنصب التذكاري لنجد حشودا كبيرة من قوات الأمن المركزي، ودون أي احتكاك عادت المسيرة استعدادا لصلاة الفجر، وعلى غير المعتاد لاحظت وجود الكثير من المتطوعين الذين يحملون العصي يجوبون الميدان في كل اتجاه في طوابير شبه رياضية مما أوحى إليّ بأن هناك أمرا ما غير عادي.

قبيل الصلاة وجدت رسالة على هاتفي من خارج مصر كان نصها (احذروا الليلة فحشود أمنية كبيرة تتوجه للميدان)، لكني لم أجد مبررا لقلق ذوينا بالخارج فلم أولي الأمر اهتماما، وظننت أن أقصى ما يمكن أن يقدموا عليه هو محاولة دخول الميدان وسيتصدى لهم الشباب بأجسادهم فيفشلوا في اقتحامه.

 صلينا الفجر ثم قلنا الأذكار، وبدأ الناس في الانصراف منذ الساعة الخامسة صباحا والخروج من الميدان ظنا من الجميع أنه من غير المعقول أن يقع اعتداء على الميدان نهارا، خرج البعض بينما ذهب الآلاف إلى الخيام يلتمسون بعض الراحة استعدادا ليوم ثوري جديد.

كنت معتادة بعد الصلاة على زيارة بعض الأخوات في الخيام المختلفة إذ ساعدتنا مدة الاعتصام على التعارف بيننا، التقيت بمجموعات (ومازالت أذكر الأسماء)، وتعارفت على أخريات وتواعدنا على تناول الإفطار معا أمام المنصة بعد صلاة المغرب.

في الساعة الخامسة والنصف لاحظت خروج مجموعات كبيرة من الشباب فرادى ومجتمعين، فاستوقفت بعضهم لأسألهم كيف تخرجوا بهذا العدد وتتركون الميدان شبه خاليا وقد آوى جميع من بقي إلى خيامهم)، فأجابوا بأنهم خارجون للتظاهر بمترو أنفاق رمسيس، وكان موعد التجمع هناك السابعة صباحا.

 هدأ الميدان كالعادة صباحا فتوجهت لخيمتنا بجوار طيبة مول من ناحية مكرم عبيد قبيل الساعة السادسة بدقائق لأسمع صوت طلقات نارية وسيل من قنابل الغاز دون سماع إنذار واحد بالخروج من الميدان، ودون سابق محاولة لإخراج المتظاهرين بخراطيم الماء كما ادعت وسائل الإعلام المصرية فيما بعد.

يوم لم تخرج فيه شمس

في دقائق معدودة تم توجيه النساء تجاه المنصة الرئيسية وسط الميدان بعيدا عن أماكن الهجود على أطرافه ، فتزاحم الناس في اتجاهين، النساء لداخل الميدان، والرجال في اتجاه القصف للدفاع عنه، لأرى مشهدا لم أتخيله يوما: في دقائق معدودة سقط بجواري (بينما لم أغادر مكاني بعد) عشرات الرجال بين شهيد وجريح ، رؤوس متفجرة ورصاصات تخترق العظام وتتجاوزها، وأطراف مفصولة تماما.
تحول المكان في دقائق لنهر من الدماء، أحال الاختناق بالغاز بيني وبين الاستمرار فهرعت لداخل الميدان من ناحية المستشفى الميداني، وقد حسبت أن الهجوم من ناحية طيبة مول فقط، لأجد أن الهجوم على الميدان شامل من كافة مداخله ، في دقائق معدودة كان الميدان يعج بحراك وتكبير وشهداء من كل اتجاه.
مرت ساعتين وقد امتلأت أسطح الأبنية المحيطة بالقناصة الذين كان يتم إنزالهم بالهيلكوبتر وقد رأيتهم رأي العين.
بلغت الساعة الثامنة صباحا وقد كانت حصيلة القتلى بالمستشفي الميداني مائتي شهيد، هذا غير عشرات الجثامين التي لم تصل للمستشفي بعد ومئات من الجرحي في إحصائية أعلنها الدكتور محمد البلتاجي على المنصة بينما كان يستغيث بأحرار العالم أن يتحركوا لإيقاف تلك المجزرة. 

كان الهجوم عنيفاً من ناحية مكرم عبيد حيث كنت هناك، والحركة فيها كانت كبيرة نظرا لسقوط أعداد كبيرة من الشهداء والمصابين، وبين الساعة الثامنة حتى الثانية بعد الظهر كنت أحمل البيبسي والخل لإسعاف المختنقين قدر استطاعتي، ثم أجمع ما تسنى لي من أفرع الأشجار لحرقها وقد كان دخانها يقلل من تأثير الغاز على حلوقنا وأعيننا ويعيق رؤية قناصة الطائرات للمعتصمين.

قبل الظهر سمعت صرخة ثم جثة تسقط بجانبي، الرأس متفجر تماما والدماغ على الأرض فإذا به (عم فتحي) الذي يجاور بيته بيتي، هرع الشباب به إلى المستشفى فهرعت معهم وأنا أكبر بأعلى صوت، دخلنا المستشفى لأجد جثامين يعلو بعضها بعضا، الطرقات غارقة بالجثث والدماء، الأدوية تكاد تنفذ بعدما قصفوا مخزن الأدوية بالطيران. المصابون في حالات سيئة وعدد الأطباء لا يكفي ولا أدوات، أقل الإصابات كانت للمختنقين من جراء الغاز من الأطفال، لم أحتمل المشهد فخرجت على الفور.

 اقترب الجنود من المستشفي عند الثانية ظهرا، وقاموا بخطف جثث الشهداء ونقلها ، وقد رأيت عشرات الجثث محمولة بأيدي الجنود يتجهوا بها خارج الميدان، وجه منادي المنصة نداء للشباب، نريد خمسين شابا لحماية جثث إخوانهم التي يتم خطفها من المستشفى، ويشهد الله أنه في كل نداء كان يتنافس ما يزيد عن مائة شاب منطلقين بأقصى سرعة للتوجه للمستشفي لا يحملون في أيديهم عصا واحدة، ليحموا جثامين الشهداء بأجسادهم، يسقط أكثر من خمسين من الشباب دفعة واحدة أمام عيني لتكون الجثث حائلا بين النساء وبين المستشفي ونقف أمامهم لا نملك لهم شيئا سوى التكبير، وأشهد الله أن تكبيرنا كان يدفعهم للهرب ثم يعودون.
قبيل العصر بلغ منا الإرهاق مبلغه ، كانت تأخذني السنة من النوم للحظات لأستيقظ على اختناق قاتل وقنابل الصوت المرعبة تلقي فوق المستشفى الميداني، وبدأ من تبقى من المعتصمين في البحث عن مكان فقط للتنفس أو للاختباء من الرصاص الكثيف  بعد العصر. كنت قد فقدت قدرتي علي الحركة تماما فجلست على الأرض أمام المنصة ، ووضعت رأسي بين كفي وظللت أنطق بالشهادة في انتظار رصاصة.

كانت أصوات القصف الشديد ووهج النار الحارقة تأتي من ناحية عمارة المنايفة بالتزامن مع القصف على المستشفى والمركز الإعلامي وسيارة البث. كانت الشمس في طريقها للغروب ولم يعد بالمسجد، أو الساحة الخارجية له، مكانا لجريح أو شهيد، اشتعل الميدان تماما واقتربت الجرافات من مقر المستشفى تجرف في طريقها كل شيء بما فيه المصابون، مع حرق الخيمة بمن فيها من شهداء ومصابون.

مع دخول المغرب وأصوات القنابل الحارقة كنت بالمسجد وبه مصابون، والمكان مظلم بينما طبيبة واحدة تعالج عشرات المصابين تحت ضوء مصباح هاتف جوال، بينما في الزاوية الغربية بالمسجد عشرات من جثث الأطفال الرضع الذين ماتوا اختناقا، توجهت بحذر شديد تجاه المركز الطبي خلف المسجد فوجدت رجال أمن يقفون على باب المركز فصرخت فيهم أن يفتحوا الباب للناس تتنفس داخل المبني أو تحتمي به، فقال أحدهم (تفضلي ادخلي، ولن تجدي مكانا من الجثث)

الممر الآمن

مع آذان المغرب سمعت نداء ضابط جيش لا أعرف رتبته، لكنه ضابط في العقد الخامس تقريبا، ينادي أن هناك ممر آمن ليخرج منه الجميع، لم أسمع كلمة ممر آمن خلال اليوم إلا في تلك اللحظة مع المغرب، ترددت كثيرا هل أخرج؟ أم أبقى وأموت مع من مات، خفت أن يكون فرارا من أرض معركة، معركة بين قاتل مسلح وبرئ لا يحمل سوي أمنية في أن يعيش حرا، خرجت مع من خرج وخلفت ورائي ميدانا غارقا بالدماء، ليس بينها دماء عسكري واحد، ليسوا مئات، بل تخطى الموت آلافا بعضهم لم يتم العثور عليه حتى الآن

خرجنا متوجهين إلى مسجد الإيمان لنبيت ليليتنا مع مئات الشهداء الذين كان يتم نقلهم تهريبا، منهم من كان نصف محترق، ومنهم من كتبت بيدي على كفنه مجهول لعدم وجود أي دليل علي شخصيته، لتبدأ رحلة معاناة أخرى مع عسكر الانقلاب

_ لم يكن الميدان مسلحا.

_ لم يقاوم المعتصمون سوى بالحجارة في مواجهة قصف بالطائرات وقناصة.

_ لم يُقتل سوى المعتصمين العزل.

_ لم أر من الميدان سوى جانب واحد منه وهو شارع مكرم عبيد ناحية طيبة مول والتي بدأ منها الاجتياح.

_ كان مسئولو الميدان على علم بالضربة العسكرية لكنهم لم يتخيلوها بهذا الحجم، وكان خروج الشباب للتظاهر قرارا لإبعادهم عن الميدان وقت اجتياحه (وشهادة من خرجوا موثقة)، ومع ذلك لم يهرب أحد من القادة، ولم يخرجوا عائلاتهم.

وما زالت برابعة أسرار بعدد من حضروا تلك الملحمة، أوقن أنها ستنكشف يوما، وحتما سيأتي وقت القصاص.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه