رأيت شجراً يطير

(1)رأيت شجراً يطير.. رأيت شجراً يسافر

تسكنني دمعة خالدة من عين صديقي الناقد الأدبي الدكتور صلاح السروي، حينها كان طالبا في جامعة القاهرة، وكان صوت فيروز ينساب في ليالي الشتاء الحزينة، وعندما وصلت إلى المقطع الذي تقول فيه: “يا حبيبي أنا عصفورة الساحات.. أهلي ندروني للشمس و للطرقات” تبللت بالندى عيون السروي، وأمطرت دمعة وحيدة، مسحها صلاح بعقلة سبابته، وأخذته الطرقات إلى المجر حيث درس واغترب سنوات قبل أن يعود إلى فردوسه الجحيمي ليواصل الوفاء بنذر الأهل، وفي تلك الأيام كنت أعيش كشجرة، وأتنفس كشجرة، وأفكر كشجرة، وأردد يصياغتي الخاصة مقولة “الأشجار تعيش وتموت واقفة”، ولما قدم لي صديق لبناني قبل سنوات عرض عمل وإقامة في بيروت، رفضت على الفور، فاندهش من رفضي السريع لأنني كنت دائم التعبير عن حبي للبنان، وتأكيدي المتكرر بأنني لا أشعر على أرضها بالغربة، ويومها قلت له: أنتم عصافير ونحن أشجار، يومها رأيت الدهشة تزداد في عينيه، وشعرت أنه كتم سؤالا لم أفكر فيه إلا وأنا على متن الطائرة في رحلتي الأخيرة إلى بيروت، فها هي الشجرة تطير، وتسافر من أرضها قاصدة العصفور.

(2) السؤال الذي كان

في لقاء مبتسر وحزين، يشبه اللحظة الراهنة في حياة العرب استرجع صديقي حديثنا عن الشجرة والعصفور، وسألني هل تذكر عندما قلت لي: أن اللبناني عصفور والمصري شجرة؟، قلت له: نعم.. وشعرت يومها أنك كنت تريد أن تواصل النقاش لكنك توقفت فجأة. فقال: فعلا.. لأنك كنت تتحدث من منطقة اليقين، وأدركت أن النقاش لن يتحرك من مكانه، وكان أول سؤال خطر على بالي يومها، أن أعداد المصريين المغتربين في الخارج أضعاف عدد السكان في عدة دول عربية صغيرة، وبالطبع أكبر  من عدد سكان لبنان، وبالتالي فإن المهاجرين اللبنانيين أقل عددا من المغتربين المصريين!.. لم يكن السؤال بعيدا عن توقعاتي، لكنني أنا الذي كتم الإجابة هذه المرة، ولم تكن بي رغبة لاستمرار النقاش، فالشجرة لم تتعلم بعد لغة العصفور، ولم تتعود بعد على الطيران.

(3) الذي ما له وطن.. ما له في الثرى ضريح

لم يكن الوطن البديل مهيأ لاستقبال شجرة جديدة، حتى شعرت أن أشجار الأرز كانت هذه المرة تشعر بالغربة على أرضها، وتفكر مثلي في السفر، الأعباء المعيشية تفترش الأرض والسماء في بيروت، وبلاد الجذب استعادت رغبتها القديمة في تحويل أشجار الغابة إلى مراكب للسفر، وكان قرار الخروج من بيروت أسرع قرار في حياتي المتأنية دوماً، وفي السماء فكرت طويلا.. تأملت عميقاً.. تألمت كثيراً، ونزلت على وجنتي دمعة ساخنة تشبه دمعة صلاح السروي التي تسكن الذاكرة، فقد تذكرت أبي.. ذلك الشيخ العجوز المقاوم الذي يعيش كشجرة شامخة تقاوم الجفاف، والرياح والسنين العجاف، وسألت نفسي: لماذا تجنبت الحديث معه في قرار السفر؟ لماذا تعمدت عدم إبلاغه؟ ولماذا لم أجرؤ على توديعه؟، وهل كان ذلك تعبيرا عن يقيني بأنني سأراه قريباً، أم أنني كنت أهرب من وصية طالما رددتها بصياغة محمود درويش البديعة: وأبي قال مرةً:  الذي ما له وطن.. ما له في الثرى ضريح، ونهاني عن السفر.. لذلك لم استطع أن أواجه الرجل الذي عاش “يربي الحجار ويخلق الأشجار”

(4) رأيت الوطن هناك.. رأيت مصر البعيدة

نحكي كثيرا عن الوطن، فنتصور أنه قطعة أرض نعيش عليها ونسكنها، وعندما تضيق بنا يحلو لنا ان نقول “يسكننا الوطن  حتى لو لم نسكنه”، ويظل الكلام كلاما حتى يختاره الواقع، وواقع المصري يقول إنه يحمل وطنه في قلبه أينما ذهب، يسافر لينفع وينتفع.. لكنه لا يهاجر ولا ينقطع، ومثل أبطال التراجيديا الإغريقية فإن غربته، مهما ظهرت على السطح كاختيار ذاتي، إلا أنها في جوهرها أشبع بالقدر، وأقرب إلى اللعنة والابتلاء، وأكثر تعبيرا عن الانتماء منها إلى الفراق، ولذلك فإن تغريبة المصري تظل أنشودة حب لوطنه، وتظل البلاد مقصدا لحياته واقفا على قدميه أو راقدا في الثرى، ومهما اغترب المصري فإن قلبه يظل يردد ترنيمة الوجع المصرية الحزينة “يا عزيز عيني.. وأنا بدي اروح بلدي.. بلدي يا بلدي والسلطة خدت ولدي”، وسواء أكلت السلطة أولاد مصر وابتلعتهم في السجون أو المنافي، فإن كل هذا الظلم والعسف لن يغير من حقيقة المصري كشجرة، ففي المنافي البعيدة التقيت بعشرات المصريين من كل الاتجاهات، كانت مصر هي المقصد والقبلة، أرض الحلم والزهو، موطئ القدم، وثرى الضريح.. لقد رأيت في الغربة وطناً يسافر، وأرضا تطير، وانتماءً لا تحده حدود ولا تعوقه عوائق.. رأيت مصر أخرى.. رأيت أجنحة لبلدٍ يكسر حكامها أجنحتها ويقصقصون ريشها، رأيت شعباً يقاوم الشتات ليستعيد ذاته ووطنه من الغربة والضياع، فلا تتوهموا أن مصر قطعة من الأرض يحكمها الأوغاد، لا تتصوروا أن مصر قطعة من الأرض يمكن استبدالها.. مصر معنى.. مصر مطلق.. مصر أوسع من كل الخرائط وأعلى من كل الأسوار.. وأبقى وأخلد من كل الأوغاد العابرين. 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه