ذئاب المدن وحريّة الكلمة

 

لم تألف الذئاب يوماً العيش في المدن، واقترابها من الأطراف كان سريعاً وخاطفاً وانتقائياً، لكنّ البشر بما يملكون من ملاحظة دقيقة ورغبة عميقة في التّقليد اتّخذوا من صفاتها رداءً واصطنعوا منها لأنفسهم منظومة أخلاقية برّرت الكثير من توحشهم وإيغالهم في القتل.

لم يكتفِ البشر بسرقة الذئب في وضح النّهار بل اتّهموه أيضاً بجرائمهم.. فحين تآمر أخوة يوسف عليه ورموه في غياهب الجب لم يجدوا سوى الذئب المسكين ليحمل عنهم إثم ما اقترفته أيديهم فادّعوا أنّ الذئب أكل أخاهم!

لكنّ بعض الشعراء أرادوا أن ينفوا التهمة عن الذئب ويعلنوا أنّه بريء من الآثام التي يرتكبها البشر، فكتب شعراء الجاهلية عن صحبتهم مع الذئاب وأشهر الأمويين الذين كتبوا عن الذئب الفرزدق في قصيدته المشهورة “وأطلس عسال”، وتبعه الشعراء في العصر الحديث فتحدثوا عن ذئاب “المدن” من باب إحقاق الحق وفضح الجرائم فأخرستهم الأنظمة الحاكمة في كلّ بقاع الأرض.

خير نسوان الأرض:

التهم الموجهة إلى الشعراء جاهزة مسبقاً ولا تحتاج السلطات إلى أدلة وبحث جنائي لإثباتها. يكفي أن تلصقها بالمتهم لينال عقابه، ويتراوح العقاب بين السجن والإعدام والإقامة الجبرية ومنع السفر والقتل في المعتقلات تحت التعذيب.

في مصر، حكمت المحكمة العسكرية على الشاعر المصري جلال البحيري بثلاث سنوات بتهمة إهانة السلطات والتأثير على الأمن القومي وتعريضه للخطر. سبب هذا الحكم الجائر ديوان للشاعر بعنوان “خير نسوان الأرض”.. ليس الديوان وحده فقد كتب كلمات أغنية “بلحة” المعروفة للمصريين الذين يتندرون بها على الرئيس السيسي. ولم يكن ذلك الحكم غريباً ولا استثنائياً بل له ما يماثله في السجون الإسرائيلية.

فقد قضت محكمة إسرائيلية بسجن الشاعرة دارين طاطور من قرية الرينة القريبة من الناصرة بالسجن خمسة أشهر مع وقف التنفيذ بتهمة التّحريض بعد كتابتها قصيدة ضدّ جرائم الاحتلال. وبما أنّ التّهمة غير كافية وليس لها الوزن المطلوب كما في البلاد العربية فقد أضيف إليها العبارة الرهيبة التي من شأنها إيقاع المتهمة والحكم عليها (التحريض على العنف والدعم لمنظمة إرهابية).

فطالبت النيابة حينها بسجنها مدّة تتراوح بين خمسة عشر شهراً، وتسعة وعشرون شهراً.

قضت الشاعرة هذه المدّة بين السجن والإقامة الجبرية في منزلها. وليست المرة الأولى التي تقوم إسرائيل بمنع قصيدة أو محاربة منشور على الفيس بوك؛ فقد سبق أن منعت قصيدة “أيّها العابرون في كلام عابر” لمحمود درويش فهي تدرك أن كلمات هذه القصيدة أشدّ تأثيراً من سلاح يقع في أيدي المقاومة.. هذا الأمر أدركته الأنظمة العربية كلّها، ولم يكن تعاملها مع الشعراء والكتّاب أقلّ عنفاً وحزماً في أيّ بلد.

ففي السعودية قضت المحكمة بإعدام الشاعر الفلسطيني أشرف فياض بسبب ديوان شعر، اتهمه أحد المواطنين السعوديين أنّه ملحد ويروّج في ديوانه للكفر، نفى الشاعر التّهمة عن نفسه، وقال إنّ ذلك حدث بسبب خلاف بينه وبين المواطن الذي قام بتقديم الشكوى ضدّه، لكنّ المحكمة لم تلتفت لكلامه فلديها شاهد “مواطن سعودي” وهذا يكفي لإدانة الشاعر وإن كان بريئاً!

مع متابعة قضيته من قبل المحامين ومنظمة العفو الدولية تراجعت المحكمة عن حكم الإعدام وقضت بسجنه ثماني سنوات!

الشاعر أشرف فياض سبق له أن حُكم بالسجن أربع سنوات و800 جلدة عام 2014 بمدينة أبها بتهمة انتهاك القانون السعودي في مكافحة الجريمة الإلكترونية لتخزينه صور نساء على هاتفه النقّال!

ليس اختراعا سعوديا

أحكام الإعدام بسبب الكتابة ليست جديدة فقد سبق وأعدم الكاتب ناصر السعيد بسبب كتابه “تاريخ آل سعود” ولم يكن بحاجة لإضافة أيّ تهم تخص كفره وإلحاده كي يتم تذويبه بالأسيد!

فكرة الإعدام بتذويب المتهم بالأسيد ليس اختراعاً سعودياً فقد سبقهم إليه السوريون في فترة حكم العسكر وبالتحديد أيام الوحدة بين مصر وسوريا وقام بها ذراع عبد الناصر “عبد الحميد السّراج” الذي أعدم الشاعر “فرج الله الحلو” بالأسيد كي لا يبقى منه شيئاً يشهد على جرائم العسكر، وهو أحد الشعراء المدافعين عن الذئاب والذي كتب كلمات أغنية غنتها فيروز تقول فيها: “نحنا وذياب الغابات ربينا”.

لكن لم يخطر ببال أحد أن ما سيجري في سوريا بعد عقود من الزمن من قتل وتنكيل في المعتقلات لا يمكن لمخيلة السرّاج “المبدع الأوّل” أن يتصوره..

في بداية الثورة السورية كانت الكلمة هي السلاح الذي استخدمه المتظاهرون ضدّ النظام السوري بصحبة الورد والماء.. لكنّ النظام السوري لم يكن يريحه سوى منظر الدماء.. الدماء وحدها؛ لذا أطلق الرصاص على المتظاهرين مباشرة ومن لم يمت بالرصاص، أو بالقصف “مثل شاعر أغنية يا حيف” قتل في المعتقلات تحت التعذيب.
 لكنّ الحادثة الأبرز كانت اقتلاع حنجرة إبراهيم القاشوش ورميه في نهر العاصي ليأكله السمك والتي أثارت حفيظة الناس وجعلت الأغنية على كل لسان حتّى حوّلها الموسيقار العالمي مالك جندلي إلى سمفونية جابت أنحاء العالم الذي لم يسمع من قبل بالقاشوش الرجل البسيط الذي خرج يحارب الظلم بكلمات بسيطة “يلا ارحل يا بشّار” لكن الطغاة لا يرحلون طالما يتحكّمون بآلة القتل المتمثلة بأنظمتهم الذئبية التي تغلبت بتوحشها وهمجيتها على كلّ الأخلاقيات ونسفت كلّ المشاعر الإنسانية، وكان الذئب منها بريئاً براءته من دم يوسف.

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه