دولة الحاكم الفرد!

في العودة الدائمة للسياق السياسي العام الحاكم لمنطقتنا العربية، وما يشابهها في العالم، نجد التفسيرات لما تعيشه من أحداث، وما تصدر عن عواصمها من قرارات، ربما تبدو مفاجأة وصادمة وخارجة عن المألوف.

نتحدث هنا عن مصطلحين حاكمين في التفسير للحركة، والموقف، والتوجه، من جانب الأنظمة في إقليمنا المثخن بالصراعات والحروب، مقارنة مع نظيراتها في بلاد أخرى لها سياقها المختلف، وهذا قد يساهم في محاولة فهم الشأن الجاري، ليس في السعودية وحدها، بل في عموم الخريطة العربية.

المصطلح الأول، عن دولة الحاكم الفرد، وهو النموذج الشائع في الشرق الأوسط، ومعظم عالم الجنوب، والمصطلح الثاني عن الدولة التي يحكمها كل فرد، وهي الدولة الديمقراطية التي يجري تداول السلطة فيها وفق الانتخابات النزيهة، وفي بيئة تنافسية شفافة تتيح فرصاً متساوية لجميع المترشحين حتى من يعتنقون أفكاراً متطرفة، يمينية أو يسارية، أفراداً أو أحزاباً، هذه الدولة نموذجها في الغرب، ومناطق متفرقة أخرى في العالم، وهي تحقق حياة أفضل لمواطنيها، بينما واقع البؤوس الشامل يتحدث عن نفسه في النوع الأول.

قيمة الاحتكام للشعب

في دولة الفرد، نجد الحاكم المطلق المتحكم في كافة شؤونها، والشعب يجري تطويعه بكل السبل، وعلى رأسها القمع، يمنح الحاكم لنفسه سلطات شبه إلهية في استمرار لنمط الحكم القديم في أوروبا قبل تحررها وقطيعتها مع إرث تاريخي مظلم، كما يكون مدعوماً بالسلطة الدينية، وهو تحالف وثيق بين السياسي والديني، وفي الدولة الأخرى الديمقراطية، فإن كل فرد فيها هو حاكم، لا يحكم مباشرة، إنما يشكل مع أقرانه إرادة الاختيار الشعبي لمن يحكمهم، وينوب عنهم، ولذلك يصحو الحاكم وينام على قراءة  توجهات الإرادة الشعبية لمعرفة مساحة الرضا عن أدائه، ليراجع دائما سياساته، حتى لا يفقد ثقة الجمهور، ويغادر الحكم.

والرأي العام يعبر عن نفسه مباشرة، ومن خلال المؤسسات المنتخبة، ووسائط التعبير المتعددة، ومنها الإعلام، والمجتمع المدني، وجماعات الضغط والتأثير، ومحصلة كل ذلك هو مرآة الزعيم الديمقراطي، بينما في دولة الفرد، لا وجود للمؤسسات، وإن وُجدت فهي شكلية، مسّخرة لخدمته، وقياس الرأي العام يصير جريمة، وإذا توفر فإن النتائج تُصمم لترضيه، مقولة: “أنا الدولة، والدولة أنا” تلخص هذا الوضع أفضل ما يكون.

في هذا السياق يمكن تفسير طبيعة القرارات  في النوعين من الدول، في حكم الديمقراطيات فإن المؤسسات التي اختارها الأفراد لتحكمهم لا تخرج عن رغباتهم في الحكم والتشريع والعلاقات الدولية، لأن مواعيد الانتخابات هي يوم الحساب الأهم، علاوة على الرقابة والمحاسبة اليومية، لم يترشح الرئيس الفرنسي السابق أولاند لأن شعبيته هبطت إلى 10%، وكان متسقا مع نفسه، وخشي هزيمة مُذلة، وتريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا طرقت أبواب البيوت خلال الدعاية لحزبها، ولما جاءت النتائج أقل مما كانت عليه في البرلمان الذي قامت بحله  تراجعت عن السياسات التي رفضها الناخبون في برنامجها، والرئيس الفرنسي ماكرون الذي حقق نتائج باهرة في الرئاسة والبرلمان رغم حداثة سنه يواجه مشكلة هبوط شعبيته اليوم، ويدرس ماذا جرى؟ وكيف يصحح الأداء؟ وترامب تدنت شعبيته بعد عامه الأول إلى 37% ليكون الأقل بين الرؤساء السابقين، وجاءه العقاب بفوز الديمقراطيين في انتخابات حكام ثلاث ولايات، وعدد كبير من المجالس البلدية والنواب في الولايات، وميركل قلصت اللجوء لألمانيا بعد اهتزاز شعبيتها، وصعود التطرف اليميني، وتلقت درساً قاسياً في الانتخابات بفقدان أغلبيتها الكبيرة، وقادة الأحزاب الذين يخسرون يستقيلون فوراً، نحن أمام حكام يقومون بوظائف أرضية انتدبتهم شعوبهم لها، وليس حكاماً يعتقدون أنهم يقومون بمهام سماوية لا علاقة للشعوب بها.

السعودية النموذج

ما يصدر في السعودية من قرارات  دراماتيكية داخلية وخارجية هو  نموذج معبر عن الدولة التي يحكمها الفرد، وهي بطبيعتها دولة ملكية وراثية تُحكم من خلال شخص واحد، لكنها منذ تأسيسها لم تشهد مثل هذه القرارات الحادة سواء فيما يُقال عن التحديث، أو مكافحة الفساد، أو بشأن الحروب والصراعات التي تخوضها، أو التهديدات التي تطلقها لأطراف خارجية، أو سقف العلاقات والصفقات مع الحليف الأمريكي، وبقدر ما يتعجب البعض من هذه السياسة الارتجاجية العنيفة، ويذهب في نواح شتى في التفسير نراها متسقة مع طبيعة نمط الحكم الفردي غير المؤسسي، وهكذا في كل نمط حكم مشابه، وهو نمط واحد تقريباً يشمل عموم الأنظمة العربية ملكية أو جمهورية، وكل ما هنالك أن من يسابق الزمن ليمسك بكل مفاصل السلطة، ويؤّمن نفسه لا يعبأ بالشكل، ولا بطريقة الإخراج، ولا بالتدرج في التنفيذ، ولا بالسياسة التقليدية المتحفظة الهادئة المطبقة منذ عقود حتى في إدارة صراعات أجنحة عائلة الحكم وأزمات داخلية وإقليمية، إنما يريد حرق المراحل بأسرع من اللازم، ما يحدث في ظل إمساك شخص واحد بالقرار أمر طبيعي سواء على صعيد ترتيبات الداخل مهما كانت مفاجآته، أو على صعيد الخارج في الاندفاع نحو تنفيذ خطة ربما منسقة مع الحليف الأجنبي مهما كانت مخاطر النتائج، وكلامنا نابع من الحرص على الإقليم العربي دولاً وشعوباً من السقوط في مستنقعات مآس جديدة.

لا قيادة المرأة للسيارة، ولا الاختلاط بين الجنسين، ولا الحفلات الغنائية، ولا إذاعة أغاني أم كلثوم في التلفزيون الرسمي هو التحديث، هذه مجرد قشور، التحديث الحقيقي هو تحرير العقل، وإطلاقه ليفكر، ويتحدث، ويعبر عن نفسه بحرية كاملة، ما لم يكن هناك عقلاً نقدياً مفكراً كما فعلت أوروبا في تحرير نفسها، وبناء نهضتها وحضارتها، فإن كل أشكال التحديث المزعومة عربياً هي والعدم سواء، الدول تُبنى بالعقول غير المستلبة، وهذا لا يتم إلا في مناخ حر بلا قيود، ولا محرمات سياسية، وفي وجود دساتير تُحترم، وحكومات ديمقراطية حقيقية، ومحاربة الفساد التي تطيح برؤوس كبيرة، ليست علامة على بناء دولة جديدة نظيفة لأنها تتم في غياب الشفافية وأدوات الرقابة والمحاسبة التي لا تستثني أحداً، كما تتم في ظل سياق سياسي يثير الشكوك في أهدافها.

وعبد الناصر أيضاً

طريقة الحكم في ظل دولة الفرد لا يمكن الإمساك بها، ولا رصد توقعات خطواتها، تنام في حال، وتستيقظ لتجد حالاً أخرى مختلفة تماماً، صدام حسين احتل العراق في ساعات، وشن حرباً قبلها على إيران في ساعات أيضاً، وعبدالناصر هدد إسرائيل، ومنحها مبرراً لعدوان 5 من يونيو/حزيران 1967 من غرفة مكتبه، وأزمة الخليج بدأت وتواصلت بقرارات فوقية في احتقار كامل للشعوب، وقرار خطير مثل تحرير سعر العملة الوطنية في مصر صدر في ساعات، وكان يجب أن ُيدرس ويُمهد الطريق له في سنوات، والأسد يذبح السوريين حتى آخر فرد لأنهم يحتجون على استعباده لهم.

أوربا عندما طوت صفحة الحكم المطلق، وجعلته ديمقراطياً دستورياً، أسست للحضارة التي تنعم بها شعوبها، بينما الشقاء لايزال من نصيب شعوب أخرى كثيرة في الأرض محرومة من حرياتها في التعبير عن نفسها، والمشاركة في رسم حاضرها ومستقبلها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه