د.نور الدين العلوي يكتب: الاستبضاع السياسي العربي

د. نور الدين العلوي*

 ليعذر لي القارئ العربي جرأة الصورة التي سأستعملها في مقالي هذا لأوصِّف حالة الدهشة المرضية التي يعيشها قطاع واسع من الشباب العربي إزاء الأحداث الجارية في الشرق الأوسط وخاصة الحرب في سوريا ومن التدخل فيها وتحريف مساراتها بعد أن كانت ثورة شعبية فحرِّفت إلى حرب أهلية ثم حرب دولية توشك أن تفتح الباب لحرب عالمية ثالثة.
وأرجو أن يتسع صدر القارئ أيضا للمقارنة بين المواقف السياسية المتفشية حول هذه المسألة وبين تقاليد نكاح الاستبضاع الجاهلي حين كان بعض العرب يجرّ زوجته لتحمل له من بضع رجل مشهور عسى أن يحسن به مكانته الاجتماعية في قاع القبيلة القائمة على النسب والرفعة بالولد. فأنا أرى أن بعض المواقف ليست إلا صيغا مستجدة من نكاح الاستبضاع الجاهلي بتغيير الفحل إلى بوتين أو اردوغان.
البصبصة السياسية.
ورثنا عن جمال الغيطاني والزيني بركات. مفهوم البصبصة السياسية وهي التلصص والجوسسة أو عمل الاستخبار الذي تشجعه السلطة لاختراق الرأي العام وفهمه وتوجيهه. وهو عمل يمكن تشبيهه ببعض الأمراض الجنسية المعروفة في حقل علم النفس والطبّ النفسي بالتلصص الجنسي  وهو أن يجد المرء متعة في النظر إلى الآخرين يتمتعون بالممارسة الجنسية ولو كانت سوية. البصبصة السياسية المنحرفة قائمة الآن على قدم وساق بحثا عن متعة انتصار (تخصيب) لو بتوهم بطل فحل والقبول بدور الأنثى أو زوجها المخصي. والفحول المتمتعون ليس العرب ولا أبطالهم المنتظرين بل هم قادة العالم الذين يتمتعون باختراق الشرق وتحديد مصيره.
يشتبك الشباب العربي الآن في المواقع الاجتماعية حول بوتين البطل الروسي في مواجهة البطل اردوغان التركي وهما يحتربان على الأرض السورية بعد سقوط البطل بشار وفقده فحولته. يرى عشاق بوتين أن دخوله الحرب إلى جانب الأسد هي نجدة صديق وكأن ليس للروسي أية مطامع في المياه الدافئة التي منعت عليه طيلة قرون. ولذلك فكل عمله الحربي لذيذ. فهو يقتل العدو
يختفي البطل المحلي (بشار) لتكبر صورة البطل المنجد.(الزوج يستبضع من البطل).
يرد الآخرون بصورة بطلهم التركي يسقط الطائرة ويتحدى الدب الروسي.وكأن ليس للتركي أية مطامع إمبراطورية في الأرض السورية(وبعضها يحتله منذ زمن سايكس بيكو). تُستدعى الصفة الإسلامية في مواجهة تاجر الفودكا ومصدِّر الرقيق الأبيض الروسي. يستحضر الإيمان في مواجهة الكفر وينسى المستبضعون أن الزنا حرام.
تختفي لعبة المحاور خلف لذة الانتصار بالآخر ففي الأخير هناك مكانة محتملة بين القبائل السياسية. يتم التركيز على حركات قصيرة كما في لعبة سينمائية أو كروية. ينحدر النقاش إلى لغة المواقع الاجتماعية الطروبة بتسجيل الأهداف وتجاهل رهان البطولة نفسه لمصلحة من يلعب الكبار على الأرض السورية. الجميع يجتنب السؤال الحارق.
هل يوجد مشروع قومي عربي في التحرر والوحدة والبناء الديمقراطي ؟ سؤال عمَّر قرنين من الزمان يلغى مثلما لم يطرح الرجل المستبضع من غيره سؤال الشرف والرفعة. وكما في الاستبضاع الجاهلي الفحل لا يسأل الزوج عن شرفه وربما طلب علف الزوجة حتى يحين حملها.
الاستبضاع وتحقير الذات.
نحن (وأحب أن أتكلم بصيغة المتكلم المشارك) الذين قلنا في تراثنا (ما حك جلد الإنسان مثل ظفره ) ولكننا لا نتولى أمرنا بأيدينا ونوكله إلى من يستفيد منا قبل أن يفيدنا. الأجندات الدولية ذات الروح الإمبراطورية تصطرع على أرضنا وبكثير من جهدنا وتجني لنفسها الفوائد الجمة فيما نؤجل نحن طرح الأسئلة عن مصيرنا الذي سلمناه للآخرين كما كنا نفعل منذ زمن بعيد ولم نتعلم من أخطائنا ولا قدرنا على نقد تجربتنا.
إن الميراث الثقافي ليس بيولوجيا ولذلك قام الاستبضاع على جهل مدقع وهو أن المَلَكَاتِ الثقافية تمرّ عبر النطفة. لذلك نستبضع ونغفل التربية على البطولة والشرف. ولذلك فالمستبضع جاهل يحتقر قدراته ويسلّم بعجزه عن التطور. وهذا ما نستحلبه من لذَّة موهومة في لعبة الأحلاف.
لقد كانت أول مقدمات هذا الغباء تشويه الثورة العربية بنظرية المؤامرة التي أفرغت احتمال تطوير الثورة نحو الديمقراطية. ولا عجب فأحد أبطال نظرية المؤامرة هو محمد حسنين هيكل الذي قضى دهره يروج لضرورة الحلف الخارجي قبل الاقتدار الداخلي وهو في تقديري أول المستبضعين. لقد عاصر زمن الأحلاف وروج لكلِّ التي قامت أمامه فمن الحلف مع الاتحاد السوفيتي(ناصر) وجدناه يقبل العمل مع نظام 99 بالمية من أوراق المنطقة بيد الأمريكان(السادات) ثم يعيش في سلام مع نظام المساعدات العسكرية(مبارك) ثم يشرّع للانقلاب على الديمقراطية (السيسي) وهو يراه يغرق غزة بالمالح. ولم نجد من أثر عن تمجيد القوة الذاتية الكامنة والمحتملة في شعبه المصري وأمته العربية.
الإمبراطوريات والعبيد.
قناعتي إن المحاور التي تتشكل أمامنا الآن ليست لصالح الشعوب العربية بل تخدم شعوبها وتكرس طموحاتها الإمبراطورية وتحيلنا (أفرادا وشعوبا ودولا) إلى مستخدمين إن لم نقل عبيدا. للتركي مطامحه القومية وإن غلفها بالإسلام السني وللإيراني مطامحه وإن غلفها بالإسلام الشيعي(آخر تصريحات الحرس الثوري هي حق إيران في العراق باعتباره أرضا تاريخية لها). وللروسي مطامعه في بناء حلف أسيوي ضد قوة أوربية عجوز يراها تتحلل ويريد أن يأخذ مكانها. والشرق العربي خاصة لمن يملكه ويتصرف في ثرواته ورقة رابحة لكل إمبراطورية قامت في التاريخ وستقوم في المستقبل.
لنخرج إذن من الفرجة ولننجب من صلبنا ونحسن التربية. إن مواقف الشباب العربي النارية لصالح هذا المحور أو ذاك في خلاصتها استعداد للاستعباد الذاتي لهذه المحاور. فالذي يرفض أن يقتدر بنفسه لن يقتدر بغيره.(ومن لا يغضب لنفسه لن يغضب له بوتين الدكر على رأي بعض المصريين الباحثين عن ذكر يخصبهم) فما هو الموقف الضروري إذن؟
بعيدا عن السخرية السوداء المهيمنة على التحليل، لا نرى الوعظ الاخلاقي القائم على التذكير بمقدرات الأمة كافيا ليردع الشباب خاصة عن الانغماس في هذا الهراء السياسي الفج. فالأمر ليس متابعة مسترخية لفيلم هوليودي بين رامبو تركي ورامبو  سوفيتي. لنسأل أنفسنا كيف عاد الروسي قويا بعد انهيار الدولة السوفيتية؟ لقد نفخ في الروح القومية لشعبه وفكر كإمبراطور قادم يحتكم إلى تاريخ طويل من القوة.ويمكن أن نقيس الإيراني على الروسي .
ألا يمكن تذكير الشباب بقوته التاريخية وإمكانياته الاقتصادية والإستراتيجية القائمة الآن؟ وإرشاده إلى أن ما قدر عليه الآخرون متاح له أيضا وهو يملك أسبابه. هذا السؤال يؤدي إلى الوقوع في الوعظ الذي لا أرفضه لذلك ينكسر التحليل إلى الشجن (وهذا من عجز النخب) . هناك عنصر مؤلم في المشهد. علينا أن ننتظر فعل الدهر في شيوخ نظرية المؤامرة. ولذلك سنظل نبصبص على الآخرين من وراء نوافذ التاريخ ونتمتع بمتعتهم فينا ونتغزل ببنات الشام في المسلسلات. هل النهاية محبطة؟ نعم بل وسوداوية. ثورة الربيع العربي تحتاج إلى دم كثير لتقطع مع ممارسات استبضاع النخب وتلد شرفها من رحمها وترى  شعبها مساوٍ للشعوب القادرة.

____________________________________

* كاتب تونسي- استاذ علم الاجتماع 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه