دم خاشقجي ونهاية حلم ابن سلمان

سيخرج محمد بن سلمان من القصرذليلا خائفا، تحاصره الإدانات والمحاكم الدولية، وتطارده اللعنات، وتشنقه دعوات المظلومين، وستغلق صفحة سوداء لشخص حارب الدين في بلاد الحرمين الشريفين

 

لم يكن اختفاء جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول مجرد جريمة عادية تمر كغيرها من السوابق، ولكن هذه المرة ضج الإعلام الدولي بالتفاصيل المروعة التي سربتها أجهزة الأمن التركية ونشرتها الوكالات والصحف فاهتز لها الضمير العالمي.

لم يكن سهلا أن يتقبل الرأي العام العربي والعالمي جريمة الخطف والقتل وتقطيع الجثمان بالمنشار الكهربائي؛ فهذه البشاعة أعادت إلى الأذهان ما كان يجري في القرون الوسطى ومحاكم التفتيش.

الذي أعطى الجريمة هذا الاهتمام الواسع أن الضحية صحفي له شهرة عالمية، يكتب مقالا أسبوعيا في جريدة الواشنطن بوست الأمريكية، وله علاقات واسعة بالدوائر الغربية لكونه واحدا من الأعمدة المهمة المرتبطة بالديوان الملكي السعودي.

هذه العلاقات المتميزة ربما هي التي جلبت عليه كل هذا الحقد من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي دفعه الغل لارتكاب عملية تقطيع جسده بطريقة سادية تتنافى والتفكير الإنساني السوي.

يؤكد استهداف خاشقجي كراهية الاستبداد لأصحاب الأقلام، وعدم القدرة على تحمل النقد، وشعور الحاكم بالعجز رغم كل ما يظهره من سيطرة وقوة أمام القلم الذي يكتب بضمير ويرفض أن يكون من القطيع.

انقلاب الفخ على أصحابه

لم يتوقع محمد بن سلمان أن تنفجر قنبلة خاشقجي في وجهه هو شخصيا، فالعملية من أغبى عمليات القتل التي يتعرض لها المعارضون، فالترتيبات لم يكن بها أن خاشقجي سيأتي إلى القنصلية ومعه خطيبته التي ترك معها تليفونه ومتعلقاته وطلب منها التبليغ في حال تأخره، فانقلبت عليهم الدنيا وفتحت عليهم أبواب الغضب.

رتبوا كل شيء، وتعاملوا مع الضحية بالغدر والخيانة، ونصبوا له فخا بكل أريحية، واستغلوا حسن نيته وشعوره بأن حرصه على ألا يكون معارضا وأنه جزء من الوطن سيجنبه القتل، فجاءه فريق الاغتيال بترتيبات تشبه أفعال عصابات المافيا، لا رحمة ولا إنسانية، وتعاملوا معه كذبيحة في مسلخ.

من جهتها أدارت السلطات التركية عملية التحقيق وجمع الأدلة بذكاء شديد، وأثبتت بالصور أن خاشقجي دخل السفارة ولم يخرج، وقالت إنها تملك تسجيلات صوتية وفيديو لما جرى داخل السفارة، وأنها تعرف أين قتل وكيف قتل، إلا أن أخطر معلومة هي المتعلقة بتقطيع جثة خاشقجي بعد إزهاق روحه.

لقد انقلب السحر على الساحر، ولم تطل فترة التعبير عن الانتصار ساعة أو ساعتين عبر فيها أشخاص مقربون من ولي العهد عن نشوة الفرح وتهديد معارضين سعوديين آخرين بنفس المصير، ولكن سرعان ما دارت عجلة الإدانة واتسعت دائرة التنديد، ومع كل تسريب لمعلومات حول الجريمة يضيق الخناق على الأمير الشاب الذي تلطخت يديه بالدم قبل أن يجلس على كرسي الملك.

ظن بن سلمان أن الملك بيد ترمب وليس بيد الله، فحارب دينه ووضع خيرة علماء المملكة في السجون، واعتقل أولاد أعمامه، وصادر أموالهم، ومازال يعتقلهم ويحدد إقامتهم، ويمنعهم وأسرهم من السفر حتى الآن، ولكنه اليوم يقف خائفا يبحث عن النجاة يخشى بث التسجيلات وإعلان التحقيقات التي ستنهي حلمه بالضربة القاضية.

تعدد الأطراف المتدخلة

كل الأبواب مغلقة أمام بن سلمان، والإدانة واضحة، والأطراف المتدخلة يصعب حصرها، ولا يمكن تكرار السيناريوهات السابقة بدفع الأموال لإغلاق الملف، فالجريمة أصبحت دولية يتابعها العالم أمام الشاشات.

الأتراك الذين تحملوا التطاول والإساءة، وعانوا من التورط السعودي في تمويل الانقلاب الأمريكي على حكم العدالة والتنمية، ومساندة خصم الرئيس التركي في الانتخابات الرئاسية، وآخرها المجاهرة رسميا بدعم التمرد الكردي وتهديد وحدة تركيا.

إن ترامب الذي أغوى بن سلمان والداعم لمشروعه، والذي أخذ منه أكثر من نصف تريليون دولار، ويطمع في الاستيلاء على شركة أرامكو للسطو على احتياطي النفط سيستخدم الملف لممارسة المزيد من الابتزاز، والحصول على المال، ولكن هذا الموقف قد يتغير إذا استغل خصومه الديمقراطيون الفرصة لتوجيه الضربات له باعتباره الحامي للأمير المتهم.

الأوربيون الذين رأوا ترمب يستولي على المال السعودي ولم يعطهم منه شيئا دخلوا على الملف، وصدر بيان ألماني بريطاني فرنسي مشترك يطالب بتحقيق جدي في قضية اختفاء خاشقجي، وهذا البيان الجماعي يوضح أن ترامب لم يعد وحده صاحب قرار الغرب.

اللاعب الجديد المؤثر هو الإعلام الدولي الذي دخل كطرف في إدانة الجريمة وتحويل اتجاهات الرأي العام العالمي ضد الحاكم السعودي، ويرجع ذلك لأن خاشقجي كان صديقا ومصدرا مهما للكثير من الكتاب والصحفيين الغربيين خلال العقدين الماضيين من خلال المناصب التي شغلها داخل المملكة وخارجها، وله علاقات ودية مع رؤساء التحرير ومشاهير الإعلام ، وأيضا علاقاته بالسياسيين والمفكرين الذين كان يلتقي بهم بشكل دائم في المحاضرات التي يلقيها في مراكز الأبحاث ودوائر اتخاذ القرار في الدول الغربية.

هل من حل؟

التغييرات التي قام بها محمد بن سلمان من تفكيك النظام العائلي والترتيبات التي توارثها آل سعود حول كرسي الملك من إبعاد واعتقال ومصادرة أموال وتأسيس أجهزة أمنية خاصة لخدمته تجعل فرص التغيير من الداخل صعبة، وسيصر هو على البقاء حتى النهاية أيا كانت العواقب.

لم يعد ممكنا أن يستمر بن سلمان في الصورة، حتى وإن فكروا في تقديم “كبش فداء” مثل القنصل أو الإعتراف بأنه قتل بالخطأ، أو الزعم بأن عناصر مارقة قامت بالعملية، لأن الأدلة تصب كلها اتجاه ضلوع الديوان الملكي في التخطيط للعملية.

 العنصر الحاسم في القضية أن الحكومة التركية لن تفرط في سمعتها ولن تقبل بتهديد أمنها، خاصة وأن بها آلاف المعارضين من العالم الإسلامي، قد تتشجع حكوماتهم على إيذائهم إن أفلت قاتل خاشقجي.

إن الدوائر الأمريكية اعتادت على دعم المستبدين الموالين لسياسة الولايات المتحدة والتغاضى عن ملف حقوق الإنسان، لكن الصراع الذي تعيشة الساحة الأمريكية والمعارضة المتصاعدة ضد دونالد ترامب ستجعل جريمة خاشقجي المفزعة قضية رئيسية في التراشق السياسي، وسيكون ترامب مضطرا في النهاية –مكرها- للتخلي عن الأمير القاتل، والتبرؤ منه حتى لا يغرق معه.

سيخرج محمد بن سلمان من القصر ذليلا خائفا، تحاصره الإدانات والمحاكم الدولية، وتطارده اللعنات، وتشنقه دعوات المظلومين، وستغلق صفحة سوداء لشخص حارب الدين في بلاد الحرمين الشريفين، وسجن العلماء، ودفع الجزية وبدد ثروة المملكة وأفقرها، وكان الأداة لتخريب الأمة لصالح أعدائها طمعا في كرسي الملك.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه