دلالات تسوية إدلب ومآلاتها

تنفيذ اتفاق إدلب لن يمر بسهولة لأن النظام السوري غير مرتاح لهذه التسوية التي حرمته من استعادة سيطرته كاملة على إدلب كان قد وعد بها أنصاره.

باتفاق ثنائي بين الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان والروسي فلاديمير بوتين (الإثنين 17 سبتمبر/أيلول) انقشع شبح الحرب عن محافظة إدلب السورية التي كان الجميع يحبسون أنفاسهم توقعا لاندلاعها في أي لحظة خلال الأيام الماضية مع اكتمال الاستعدادات العسكرية لكل الأطراف.

نجح أردوغان إذن في تجنيب إدلب والمنطقة كلها الحرب التي كان النظام السوري قد هيأ وتهيأ لها، بدعم إيراني ومشاركة روسية بدعوى اقتلاع جذور الجماعات المسلحة من إدلب.
لا يمكن القول أن أردوغان نجح بنسبة مئة في المئة في تحقيق رؤيته تجاه إدلب التي هي أحد مناطق خفض التوتر الأربعة المشمولة باتفاق أستانا الثلاثي (التركي-الروسي- الإيراني) مطلع العام 2017.
ولكن يمكن القول أن كلا الرئيسين أردوغان وبوتين تقاسما الانتصار في هذه الجولة، فالرئيس أردوغان نجح في إزاحة شبح الحرب التي كانت ستدفع تركيا ثمنها الأكبر من خلال موجة ضخمة للمهاجرين السوريين الجدد تضاف إلى الملايين الثلاثة الموجودين في تركيا حاليا، ومن خلال استنزاف موارد تركية في لحظة تعاني فيها البلاد أزمة اقتصادية مع تراجع الليرة مقابل الدولار، ناهيك عن الخسائر الطبيعية التي ستنتج عن الحرب.
وأما بوتين فقد نجح في تحقيق هدفه بطرد الجماعات السورية المسلحة بعيدا عن خط المواجهة، ونزع أسلحتها الثقيلة بدون حرب، كما نجح في ضمان عدم تعرض قواعده العسكرية في طرطوس واللازقية لأي هجمات من الفصائل المسلحة (من سخرية القدر أنه عقب إعلان الاتفاق مباشرة تم إسقاط طائرة قتالية روسية ولقى 15 ضابطا على متنها مصرعهم، وحملت روسيا إسرائيل المسئولية بينما أشارت أخبار أخرى إلى أنها أسقطت بطريق الخطأ من قبل الدفاعات السورية التي تعتمد على منظومة صواريخ روسية) .

التقاط الأنفاس

التقط أهل إدلب والمهجرين إليها (3,5 مليون نسمة) أنفاسهم، وعادوا يمارسون حياتهم بشكل طبيعي بعد انحباس أنفاسهم على مدى عدة أسابيع سابقة، لكن العيون لا تزال مشدودة إلى الكبيرين أردوغان وبوتين، وهل سيستطيعان تنفيذ ما اتفقا عليه على الأرض؟ وخاصة الجانب التركي الذي تعهد بنزع الأسلحة الثقيلة للفصائل العسكرية، وتحريكها بعيدا عن خط التماس بعمق 15 إلى 20 كم، خلال شهر من الآن حيث سيدخل الاتفاق حيز التنفيذ الفعلي منتصف أكتوبر/تشرين الأول.
وسيسبق هذا التاريخ مباحثات فنية بين الجانبين التركي والروسي من جهة حول سبل وتحديات التنفيذ، ومباحثات روسية مع النظام السوري، ومباحثات تركية مع الفصائل المسلحة المستهدفة من جهة أخرى، وهذه ستكون الأصعب نظرا لتشدد بعض تلك الفصائل ورفضها التخلي عن أسلحتها الثقيلة، والتي وصل الأمر ببعضها لاعتقال ومعاقبة بعض أنصارها الذين أبدوا مرونة تجاه التسويات السياسية.
لكن الدولة التركية ستكون حازمة في التنفيذ لأن سمعتها ستكون على المحك، والأهم أنها تدرك جيدا التكلفة الباهظة لأي حرب محتملة.

الاتفاق يمثل نجاحا لمسار أستانا  الذي انطلق مطلع 2017 على حساب المسار الأممي( مفاوضات جنيف) الذي يقوده دي ميستورا ممثلا للأمم المتحدة.
فقد نجحت دولتان فقط هما تركيا وروسيا فيما فشلت فيه الأمم المتحدة التي تمثل العالم أجمع، والسبب الرئيسي للنجاح التركي الروسي هو وجودهما الفعلي على الأرض السورية، وامتلاكهما للقدرة على التأثير على النظام السوري والمقاومة السورية، بخلاف مسار الأمم المتحدة الذي يعمل بطريقة كلاسكية منزوعة من أي إرادة حقيقية للحل والتسوية، ومشبعة بعقلية دبلوماسية بيروقراطية لا يمثل عنصر الوقت حساسية خاصة عندها، ولا مانع لديها من استمرار الأزمة السورية لعقود مقبلة، كما هو حال القضية الفلسطينية.

الغياب الإيراني والعربي

كان لافتا غياب إيران عن اجتماع سوتشي الذي توصل فيه أردوغان وبوتين للاتفاق يوم الإثنين الماضي، بعد تعثر اجتماع القمة الثلاثية في طهران يوم الجمعة بحضور روحاني إلى جانب أردوغان وبوتين.
ولكن غياب طهران عن قمة سوتشي لم يترجم إلى رفض للاتفاق علنا على الأقل، بل إن ما رشح يفيد قبول طهران ودعمها له،وربما يرجع ذلك لإدراك القيادة الإيرانية التي تعاني حصارا دوليا وأزمات داخلية أنها لم يعد لها اليد العليا في سوريا بعد تعاظم الوجود الروسي.
كما أن طهران لا تريد أن تخسر ما تبقى لها من أصدقاء وعلى رأسهم موسكو وأنقرة اللتان لا تزالا تمثلان متنفسا لطهران وشريكا لها في مواجهة الحصار الذي يستهدف العواصم الثلاث وإن بدرجات متفاوتة.

الأمر اللافت الآخر هو غياب أي دور عربي عن هذه التسوية التي تمت في سوتشي لأزمة إدلب، فلا الجامعة العربية كان لها دور، ولا المملكة العربية السعودية أو الإمارات اللتان كانتا تدعمان بعض الفصائل السورية، ولا نظام عبد الفتاح السيسي الذي لا يخفي دعمه لصنوه بشار الأسد  كان لهم دور.
واكتفى الجميع بدور المتفرج، بل الغريب أن وسائل الإعلام التابعة لهذه النظم كثفت هجومها ضد الرئيس التركي أردوغان، وإن صمتت تجاه بوتين، فهي تعتبر نفسها في حرب مفتوحة مع تركيا، التي تساند حق الشعوب العربية في التحرر والاستقلال والديمقراطية والعدالة والحرية.

هذه التسوية كشفت أن اللاعبين الكبيرين في المنطقة الآن هما تركيا وروسيا، بعد تراجع طهران اختياريا، وهذا ما يشي في حال نجاح التسوية الحالية بقدرة هذين اللاعبين على طرح تسوية سياسية في سوريا، وقدرتهما على إلزام النظام وقوى الثورة بها.
وربما ستسعى الدولتان للتماس في هذه التسوية النهائية مع الجهود الدولية التي تبذلها الأمم المتحدة والتي تتلخص في تشكيل لجنة لصياغة دستور جديد لسوريا يقسم السلطة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ليضمن بقاء الأسد من ناحية ( ولو بسلطات رمزية) ومشاركة حقيقية للمعارضة من ناحية أخرى.
ويبدو أن  فرص هذه التسوية الدولية ستتحسن كثيرا إذا صمد اتفاق إدلب في مواجهة العواصف المحلية والدولية، وهذا ما عبر عنه الرئيسان أردوغان وبوتين في مؤتمرهما الصحفي المشترك، إذ شدد بوتين على أن “المهم هو أن روسيا وتركيا مصممتان على مواصلة استخدام مسار أستانا بكل قوته، وفرص إيجاد حلول سياسية طويلة الأمد في جنيف برعاية الأمم المتحدة. والعمل على تشكيل اللجنة الدستورية من ممثلي القيادة السورية وقوى المعارضة والمجتمع المدني، وضمان انطلاق عملها في أقرب وقت”

إعاقة الاتفاق

تنفيذ اتفاق إدلب لن يمر بسهولة لأن النظام السوري غير مرتاح لهذه التسوية التي حرمته من استعادة سيطرته كاملة على إدلب كان قد وعد بها أنصاره، وبالتالي فمن الممكن أن يفتعل النظام أي مشكلات لإعاقة الاتفاق ،أو قد يدفع بعض عملائه للقيام بعمليات مسلحة لتحسب على المعارضة، وليتهمها بخرق الاتفاق.

وفي المقابل فإن بعض فصائل الثورة المسلحة لا يعجبها هذا الاتفاق وترفض تسليم أسلحتها، وقد تقاوم عمليات نزع التسليح ما يفرض مواجهة مسلحة بينها وبين الجيش التركي، ولكن ربما تكون فرصة الشهر كافية لأنقرة لإقناع تلك الفصائل بعدم جدوى الرفض.
وبطبيعة الحال لا يمكننا أن نتجاهل الموقف الأمريكي الصهيوني الذي يرى مصلحته في استمرار الصراع، والذي لا يبدو سعيدا بنجاح الدور الروسي التركي في نزع فتيل الحرب، ومن المحتمل أن “يعكنن” على هذه التسوية بطريقته، وربما كان إسقاط الكيان الصهيوني (لو صح) للطائرة الروسية هو جزء من هذه “العكننة”.

تسوية إدلب حال صمودها واجتيازها للعقبات المحلية والإقليمية والدولية ستسهم في تعزيز التعاون التركي الروسي واستعادة قدر أكبر من الثقة (المفقودة تاريخيا بينهما)، وسيشجع البلدين على المضي قدما نجو تسوية كاملة ودائمة في سوريا، تعتمد على المقترح الدولي الخاص بالدستور والانتخابات الديمقراطية التي تتيح تقاسم السلطة بين نظام البعث وقوى الثورة.
وفي حال الوصول إلى هذه التسوية الكبرى، فقد يشجع ذلك الدولتين (تركيا وروسيا) على المضي اكثر نحو تسويات أخرى للملفين اليمني والليبي بحكم ما يمتلكانه من أوراق تأثير في كليهما.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه