د. نور الدين العلوي: الخَمَّاسُ وصاحب النخلة

أدخلت المنظومة الحزب إلى بيت الطاعة نهائيا. سلطت عليه أداوتها للإبقاء عليه في حالة الرعب الأبدي من الاستئصال فظل يناور للبقاء حيا معتقدا أنه يتقدم نحو وضع الشريك الكامل.. يتبع.

د. نور الدين العلوي*

 

الخمَّاس ومالك النخلة وأشكال الاستخدام الزراعي القائم على تبعية  المستخدم لمالك الأصول تذكرنا بموقع حزب النهضة شريك حزب النداء في إدارة المرحلة السياسية الحالية بتونس. فطبقا لأعراف التشغيل القديمة في واحات النخيل بالجنوب التونسي فإن  الاستخدام يكون بمقابل عيني لا نقدي. إذ يكلف صاحب الواحة ناطورا (عاملا مستمرا ومقيما) برعاية واحته لمدة معينة مقابل حصول العامل على خُمُسِ الإنتاج من التمور. ولا يتجاوز أجره الخُمُسَ مهما كانت كمية المنتج ولذلك سمي بالخمَّاس. قد يسمح صاحب الواحة بحسب  كرمه وسخائه للخماس باستغلال الأرض تحت النخل لزراعة الخضر والعلف (البرسيم) ليزيد من تمسكه بالأرض. وتعود فائدة فلح الأرض على النخلة. وأرى في هذه الشراكة غير المتساوية أن الأدوار محددة بين الحزبين النداء يملك الأصول والنهضة تقوم بدور الخماس.
المنظومة القديمة فهمت النهضة جيِّدا
قاوم النظام حزب النهضة منذ ظهوره للعلن سنة 1981. وكانت الحرب بينهما لا تفتر إلا لتشتعل وكان النظام يملك فيها كل قوته وتملك النهضة كل مظلوميتها القائمة على الحرمان من حق شرعي في المشاركة السياسية القانونية(الضحية والجلاد). فلما قامت الثورة انفلت حزب النهضة ليصبح فاعلا رئيسيا في الساحة بل يربح الانتخابات ويشكل الحكومة بما أوهم بنهاية الحرب والدخول في مرحلة سلم وتعايش وذهب النهضويون إلى أنهم صاروا حكام البلاد الفعليين (المنتصرون على جلادهم). لكن المنظومة كانت تملك وسائل العودة. وقد عادت لتستعيد قدراتها على الحكم فوجد حزب النهضة نفسه يحل ثانيا في ثاني انتخابات سادها التزييف ووجهها المال الفاسد. ثم سارع يتوسل الاختفاء داخل الحكومة لكي لا يعود إلى وضع المطارد الأبدي. وباستعادة صورة الاستخدام القديمة فان الواحة عادت لصاحبها واْسْتُعْمِل من توهّم الحكم والتمكين خمَّاسا جديدا.
لقد روج حزب النهضة لشرخ ظاهري في المنظومة القديمة بين شقها الاستئصالي (اليساري والفرنكفوني) وبين شقها غير الاستئصالي (الدستوري ) أوهمت النهضة نفسها  بهذا الشرخ السطحي المصطنع  بأنها شقت المنظومة وفلقتها فعلا لكنها لم تنتبه أن الشقين يختلفان في الدرجة الاستئصالية لا في مبدئية رفض الاستئصال. ويتضح لنا ذلك من خلال الإذلال الذي تمارسه المنظومة بكل مكوناتها على النهضة. فهي تَمُنُّ عليها أن لم تعدها إلى السجون. وتمن عليها أنها تسمح لها بالمشاركة الحزبية وتتكرم عليها بحقيبة وزارية تقنية يتيمة وتستعمل كتلتها البرلمانية المتماسكة لتمرير كل القوانين التي تريدها هي وليس البلد والثورة. إنها لا تقبل بها شريكا كاملا بل خماسا يترك له زراعة بعض الخضر ليقتات منها.
المنظومة المتمرسة بالحكم فهمت النهضة الطارئة عليه. إنها لا تقدر على الحكم وليس لديها فعلا بدائل مختلفة وليس لديها قدرة على النفاذ الفعلي للأجهزة ودواليب الحكم فضلا على أن كثيرا من نخبتها طلاب سلطة وموقع. وليسوا الشهداء الأحياء الذين كانوا  قبل الثورة. لقد كشف الحكم معدنهم. أنهم مماثلون لمكونات المنظومة القديمة ولذلك يصير من الخطل اقتسام السلطة / الواحة معهم. مادام يمكن تحجيمهم في وضع الخماس فصاحب الواحة لا يقبل قسمة نخيله مع شريك.
بل لعلنا نلتقط مؤشرات إذلال أشد في إطار التحجيم المنهجي للطموح النهضاوي. فهذا الحزب غير مستعد للدفاع عن نفسه ويمكن لأي صحفي من تربية المنظومة القديمة أن يعبث بكرامة أي قيادي ويضع الحزب في موضع المدان ولا يسأل الصحفي عن أدلته. بينما يجد النهضوي نفسه يلهث خلف أدلة براءة مطعون فيها مهما كان.
في أجواء انهزامية يحتفظ  النهضوي بحق الرّد،  لكن المنظومة تعرف أكثر أن بعض الترفع ذلة في سياق طلب مغنم لذلك تمعن في الإذلال. وهدفها النهائي أن يدخل الجمل النهضوي في سَمِّ خياط المنظومة ويكتفي بخمس الإنتاج.
تأبيد وضع الخماس
هل تملك النهضة الخروج من زاوية الخماس لتصبح شريكا  فعليا؟ 
لقد خسرت وضعية المظلومية واستهلكتها في دورتين انتخابيتين. وتخلت عن صيغة الحزب السياسي الإسلامي الهوى والمراجع. ليس بتطوير هذه المرجعية حتى الآن على الأقل (مشروع إعادة بناء الإسلام السياسي أو نفيه ) بل بقبول صيغة ليبرالية تحررية محددة مسبقا من قبل المنظومة القديمة بخطاب تقوى يبرر ولا يشرح. لقد كانت حتى انتخابات 2014 في موقع أخلاقي مرجعي (المسؤولية أمام الله) فنزلت أو أنزلت وهو الأصح إلى وضعية شريك اللص الذي لا يحتمل أن يقسم مغنمه. فحملت من رذيلته كجار بائع الفحم ولم تغنم من غنائمه كجار العطار. لقد بقيت رغم الشراكة الشكلية خارج جوهر الدولة. ولم تصبح مالكة للأصول.وتتجه إلى ما يشبه وضعية حزب الوفد المصري. (الاسم العالي والمقر الخالي). لكن السؤال يطرح هل كان الحزب قادرا على الصمود  في معارضة المنظومة التي التفت عليه انتخابيا؟
تبدو النهضة كمن لم يفهم المنظومة ومكوناتها وآليات اشتغالها أو كمن فهمها وعجز دونها وهو الأقرب إلى الصواب. فقد انتهت إلى أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي مشرف على الكارثة. وأن السبب هو التخريب الممنهج الذي تمارسه المنظومة على آليات العدالة الانتقالية ورفضها القبول بشروط تصفية التركة المغشوشة والبدء على أسس  سليمة. ولو ضمن المنوال الليبرالي. لذلك نجد رئيس الحزب ينتهي إلى الدعوة إلى العفو العام بعد  مقابلة الرئيس والحديث عن التهدئة الاجتماعية .(الشروق ليوم 18 نيسان)كما يبدو أنه أمر بالقول. أي أنه تحوَّل من معارض ولو من داخل المنظومة إلى مبرر لبقائها وتمكينها بوسائلها، أي الإبقاء على منظومة الفساد وحفظ قوتها للمستقبل وبشروطها كاملة.
لقد أدخلت المنظومة الحزب إلى بيت الطاعة نهائيا. لقد سلطت عليه أداوتها للإبقاء عليه في حالة الرعب الأبدي من الاستئصال فظل يناور للبقاء حيا معتقدا أنه يتقدم نحو وضع الشريك الكامل وفي نفس الوقت الذي ظلت فيه تمارس رفضها لكل تغيير حتى وجد نفسه شريكا في صناعة الأزمة لا شريكا في حلها. إنه مدعو الآن ليكون شريكا في حل أزمة طبقة المافيا الاقتصادية على حساب الثورة ومطالب الفئات الشعبية  ومن موقع المأمور لا الشريك في الدولة. وهو في وضع قياس شعبيته المتهاوية ويدخل مؤتمره العاشر لتحقيق مطلب السلطة في تغيير مرجعياته لا لفرض مرجعيات الثورة على المنظومة الفاسدة. لقد اختفى حديث الثورة من خطابه نهائيا.
إعاقات دائمة
ستكون لهذه المرحلة آثارها على الحزب وستكون آثارا بمثابة إعاقات دائمة غير قابلة للجبر. فالصبر الذي أظهره الحزب في هذه المرحلة على الأذى بحجة حماية البلد جعل بينه وبين الإدارة سدا (في كل تعيين يجب أن لا يكون نهضويا) وبينه وبين النقابات سدودا(لا يدخل أي نهضوي  انتخابات نقابة باسمه السياسي بل يدفع بمستقلين أو يموه حضوره). وبين الشعب أكثر من سور صيني( فقد وقف الحزب ضد كل تحرك اجتماعي مشروع). وحتى إذا تغير الوضع الدولي لصالحه فإن عاهاته الداخلية لن تسمح له بالعودة إلى وضع الحزب الأول .
أي أن المنظومة أفلحت أخيرا في ترويض هذا المعارض الشرس وأسقطت أسنانه فهو الآن مستأنس أدرد وطيع وتعلن قيادته مطالب المنظومة التي يعجز النداء نفسه عن تبنيها علنا.
لقد صار جليا أنه كلما أفرط الحزب في إعلان نجاته من وضع الضحية فإنه يكون في حقيقة وضعه بصدد معاينة العودة به إليها من جديد.إنه بصدد تبرير الحد الأدنى الذي قبل به.
لقد كانت المنظومة تعيش توترا كبيرا بقمع هذا الحزب لكنها الآن تقوده بكلفة أقل وتضعه في حجمه النهائي كحزب معارض صغير لا يؤثر على أية قرار تتخذه المنظومة. سيكون الشاهد الأخرس جار الفحام الأبدي  أو الخماس الذي لا أمل له في تملك نخيل الواحة. بعد صائفة 2016 ستشتغل المنظومة بكل قدراتها فيما هو يراقب الوضع من داخل البرلمان ويوافق. وستظل المنظومة تمتلك أدوات الترهيب  التي تعود بها للحظيرة إذا فكرت في ترميم مكانتها خارج الموقع الضيق المحدد لها بعد انتخابات 2014.

________________________________

*استاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه