د. عصام عبد الشافي يكتب: أسطورة التراجع الأمريكي

يقوم مبدأ القيادة من الخلف في أحد تعريفاته على أنه: “اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على حلفائها الاستراتيجيين في إدارة وتسوية الصراعات التي تقع محيط إقليمهم. يتبع

د. عصام عبد الشافي*
مع وصول الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة بعد انتخابات 2008، وتوليه مقاليد الحكم في يناير 2009، ثم إعلانه عن بعض توجهات سياسته الخارجية، ثم إعلانه عن خطة لتقليص الوجود الأمريكي في كل من العراق وأفغانستان، بل وإعلانه عن مبدأ “القيادة من الخلف” كأهم مبادئ سياسته الخارجية، حتى تسارعت التحليلات عن تراجع أمريكي عن قيادة العالم، بل وتوسع البعض في الحديث عن بدايات نظام عالمي جديد وتعدد أقطاب وغير ذلك من مفاهيم، ومصطلحات.

ويقوم مبدأ القيادة من الخلف في أحد تعريفاته على أنه: “اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على حلفائها الاستراتيجيين في إدارة وتسوية الصراعات التي تقع محيط إقليمهم الجغرافي ممن ترتبط مصالحهم وأهدافهم بمصالح وأهداف الولايات المتحدة”.

وقد شهد هذا المبدأ العديد من النماذج التطبيقية له خلال السنوات الخمس الأخيرة، فقد اعتمدت الولايات المتحدة على فرنسا في إدارة التدخل العسكري في ليبيا للقضاء على نظام العقيد معمر القذافي، وكذلك اعتمدت عليها في تسوية الوضع في مالي في مواجهة الحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية التي سعت إلى تحرير إقليم “الأزواد” شمالي مالي.

وهذا النمط الجديد للإدارة الأمريكية المتمثل في “القيادة من الخلف” يتوافق ولا يتعارض مع مبدأ “الإدارة بالأزمات” الذي تبنته الولايات المتحدة في المنطقة العربية، وفي منطقة الشرق الأوسط، منذ 1980 وحتى الآن، وفي إطاره قامت على صنع عدد من الأزمات الإقليمية، وبلورتها ثم الإدارة بها بما يخدم مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.

استراتيجية واشنطن
وفي استراتيجيتها للأمن القومي، والتي تم الإعلان عنها في فبراير 2015، أكدت الولايات المتحدة الأمريكية على عدد من الركائز الأساسية، يمكن من خلالها الرد على مرددي شعارات من قبيل “التراجع الأمريكي في العالم”، و”تدهور الدور الأمريكي في الشرق الأوسط”، و”التعددية القطبية الجديدة” و”تشكيل نظام عالمي جديد”، وغيرها من شعارات، أعتقد أنها تحتاج لمزيد من الدقة والتعاطي معها وفق اعتبارات علمية موضوعية، وليس وفق رؤى منحازة وأمنيات شخصية.

ومن بين الركائز التي أكدت عليها الاستراتيجية، والتي يجب التعاطي معها بفاعلية وموضوعية:
1- أميركا اليوم هي الأقوى في “عالم غير آمن”، هي أقوى بسبب نمو القوة الاقتصادية (ركيزة القوة الأميركية)، والتمكن من الخروج من الحروب البرية الكبرى في العراق وأفغانستان، وتجديد التحالفات في آسيا وأوروبا.
2- أميركا هي المؤهلة لقيادة العالم لمواجهة العديد من التحديات، وأن السؤال يجب أن يكون ليس حول إمكانية المواجهة بل كيفية المواجهة، وهو ما يتطلب التأكيد على أن الوفاء بمسؤوليات الولايات المتحدة يعتمد على دفاع قوي ووطن آمن .. كما يتطلب موقفا أمنيا عالميا يتم فيه توظيف قدراتها في إطار تحالفات دولية متنوعة ودعم لشركائها المحليين، وتوفير الدعم التشغيلي لكسب الأرض ضد ما تسميه الجماعات الإرهابية.

3- القيادة من خلال الأهداف، أي لحماية أميركا ومواطنيها، وتجنب أزمة في الاقتصاد الدولي، ومنع امتلاك أو استخدام أسلحة الدمار الشامل، التغير المناخي، منع خلل كبير في سوق الطاقة، التحسب لآثار ظهور الدول الفاشلة والضعيفة.

4- القيادة بمتانة من خلال تعزيز عناصر القوة الأميركية الداخلية، والقيادة من خلال تقديم نموذج يستحق الاقتداء، وهذا حديث دائم مرتبط بما يعرف بالقوة الناعمة، والقيادة من خلال شركاء قادرين، أي التأكيد مجدداً على أنه حان الوقت لأن يشارك الآخرون في تحمل المسؤوليات خلف واشنطن والتخلي عن حالة “الراكب المجاني”.

5- القيادة من خلال كل عناصر القوة الأميركية ( العسكرية، الدبلوماسية، العقوبات، التنمية، الاقتصاد، الاستخبارات، العلم والتكنولوجيا)، أي الاستمرار في الحد من دور القوة العسكرية في السياسة الخارجية الأميركية لصالح توليفة هجينة.

6- القيادة بمنظور بعيد الأمد، من خلال مراقبة تحولات القوة حول العالم، وإدراك أن عملية التنافس في الشرق الأوسط ستبقى قابلة للاشتعال لا سيما حيث للمتطرفين الدينيين جذور أو حيث هناك “حكام يرفضون الإصلاح الديموقراطي”.

7- إن “البيئة الاستراتيجية” الدولية اليوم تعاني من السيولة، ولذا لا بد من اعتماد مجموعة من الأولويات المتتوعة والمتوازنة بدلاً من تركيز السياسة الخارجية الأميركية على إقليم واحد أو تهديد وحيد.

8- الأولوية للعمل الجماعي والتحالفات وليس للعمل الأميركي الأحادي إلا عند الضرورة (أي حصول تهديد لمصالح أميركية جوهرية)، واستكمال إعادة التوازن في آسيا والباسيفيك لمواجهة الصين من خلال تمتين ونسج تحالفات في المنطقة لا سيما مع الهند.

9- مبدأ “الصبر الإستراتيجي”، أى الاستثمار في بناء عناصر القوة الأميركية بدلاً من القفز مباشرة إلى الصراعات حول العالم ومحاولة تحقيق نتائج سريعة.

10- تقوية وتحديث الدفاع الوطني الأميركي (ضد الهجمات الصاروخية، والسايبرية والإرهاب)، وتعزيز أمن الأراضي الأميركية، وبناء قدرة لمنع اندلاع الصراعات، أي العمل استباقياً لمنع دول مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية من إبداء العدائية من خلال الدبلوماسية وتعزيز الالتزام الأمني مع الحلفاء وفرض تكاليف على هذه الدول. وعلى مستوى الحروب المحلية، يجب العمل على معالجة “المظالم” التي تنتج الحروب من خلال التنمية والتعليم.

النجاح
وفي مواجهة هذه المبادئ وتلك المرتكزات قد يدفع البعض بأنها تبقي عبارات إنشائية، تتضمنها استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية، منذ 2002 وحتى اليوم، ولكن بنظرة واقعية لتطورات الأوضاع في العالم خلال السنوات الخمس الأخيرة يجد أن الولايات المتحدة هي الرابح الوحيد من كل التحولات والتطورات التي شهدها العالم، وأنها قد نجحت ليس فقط في حماية وتأمين مصالحها الاستراتيجية عبر العالم، ولكنها نجحت في تعزيزها بل وتعظيمها، ولعل وضع أقرب منافسيها المحتملين بل وأهم حلفائها الاستراتيجيين، يؤكد ما حققته الإدارة الأمريكية الحالية بأقل الخسائر الممكنة مقارنة بما حققته إدارة جورج دبليو بوش “2001-2008”.

وأن ما حققته الإدارة الأمريكية الراهنة يجعل الأحاديث والتحليلات حول تراجع الدور الأمريكي في العالم وفي إقليم الشرق الأوسط، يدخل في باب “المأمول” وليس “الواقع”، وهو ما يفرض على الجميع إعادة النظر في منطلقات التحليل إذا كانت هناك رغبة حقيقية وجادة في وضع رؤي استشرافية للتعاطي مع هذا الدور في المستقبل القريب والبعيد والذي يحمل من التطورات ما تعجز الكثير من التحليلات على الإحاطة به أو توقع مداه ونطاقه وتداعياته.
__________________________

*باحث مصري في العلوم السياسية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه