خطاب “أردوغان” … الدلالات والتداعيات

ثمان  وأربعون ساعة فصلت بين إعلان الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان يوم الأحد ٢١ أكتوبر تشرين الأول، عزمه الحديث عن مقتل الصحفي جمال خاشقجي، في اجتماع الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية، والمقرر له الثلاثاء من كل أسبوع، ساعات شحنت بالتوقعات والتحركات، توقعات لما سيقوله أردوغان في أول تصريح رسمي من نوعه يخص القصية، خاصة مع تأكيده أنه سيكشف الحقائق، وتحركات استباقية قادتها الولايات المتحدة التي تحاول حل أعنف أزمة تواجه إدارة ترمب كما وصفها هو نفسه، فبينما توجه فريق أمني إلى السعودية، تحرك آخر برئاسة مديرة الاستخبارات الأمريكية، جينا هاسبل إلى تركيا، وسط تصريحات صادرة من عواصم أوربية عدة – أبرزها برلين – ترفض رواية الرياض، ومحاولة من الدبلوماسية السعودية بقيادة وزير خارجيتها عادل الجبير إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

إضافة إلى تسريبات صحفية أحدثها ما نشرته جريدة صباح التركية، تشير لأول مرة إلى دور الملحق العسكري في القنصلية السعودية، أحمد عبد الله المزيني، في التحضير للعملية منذ الزيارة الأولى لخاشقجي للقنصلية في ٢٨ سبتمبر أيلول، ووصفته بالعقل المدبر للجريمة.

كثيرون انتظروا كلمة نارية من أردوغان يوجه فيها أصابع الاتهام إلى محمد بن سلمان مباشرة وبدون مواربة، لذا جاءت كلمته الهادئة نوعا ما بمثابة صدمة لهم.

العلاقات التركية السعودية .. محاولة للفهم:

قبل التطرق إلى مضامين خطاب أردوغان، يجدر بنا التذكير بطبيعة العلاقات التركية السعودية التي تحكمها عدة اعتبارات تلعب دورا مؤثرا في سياسة أنقرة تجاه الرياض، وتفسر المواقف التركية المختلفة:

الاعتبار الأول: السياق الإقليمي

تمر المنطقة بحالة تمزق وضياع غير مسبوقة أدت إلى تداعي معظم وحداتها السياسية وتمزقها، وتماهي كثير منها مع المشروع الصهيوني خاصة عقب الانتصارات الجزئية التي حققتها الثورة المضادة، في ظل حلف وثيق تم تشكيله يدار بشكل أساسي من تل أبيب ويضم عواصم مؤثرة كالقاهرة وأبو ظبي والتحق به ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في تفاصيل كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. هذا التحدي تدركه تركيا وتعرف أنها المستهدف الأول لهذا الحلف، وأنه حاول ضربها عدة مرات بطرق مختلفة سواء في محاولة الانقلاب الفاشلة، أو الإضرار بسعر عملتها الوطنية، أو مساعدة التنظيمات الانفصالية في شمال سوريا لتكوين كيان كردي مستقل، يكون مقدمة لمحاولة فصل الجنوب الشرقي من تركيا، لذا تعمل السياسة التركية على تفكيك ذلك الحلف وفي القلب منه السعودية التي تحرص أنقرة على عدم تركها نهبا لـ بن سلمان وجماعته عقب إطاحته بابن عمه محمد بن نايف الذي كان يرتبط بعلاقات متميزة مع أنقرة.

الاعتبار الثاني: السياق الاستراتيجي

إذ تدرك تركيا أنه ليس باستطاعتها وحدها إعادة ترتيب المنطقة وإعادة اللحمة بين مكوناتها العرقية الأساسية (العرب والأتراك والكرد والفرس) دون مساعدة حقيقية من ظهير عربي يمتلك قراره ومصيره، وكان المعول عليه أن تلعب مصر ذلك الدور، لكن الانقلاب العسكري دفع بها إلى المعسكر المعادي لتركيا، التي استبشرت بتولي الملك سلمان وحاولت تجسير الهوات التي حدثت في عهد سلفه الملك عبد الله، لكن تلك الجهود لم تكتمل، فعملت تركيا على إبقاء العلاقات في حدودها الدنيا على أمل إصلاحها يوما ما، ضمن إطار سياسي أوسع يعمل على تقليل الأعداء وتكثير الأصدقاء.

الاعتبار الثالث : السياق الديني

فتركيا تخشي أن تؤدي الهزات العنيفة داخل المملكة على وضع الحرمين الشريفين، الأمر الذي صرح به أردوغان قبل ذلك في معرض حديثه عن المسجد الأقصى.

الاعتبار الرابع: السياق المذهبي

إذ تدرك تركيا أن السعودية تمثل رصيدا مهما للمسلمين السنة في المنطقة والعالم، وأن بقاءها متماسكة سيعمل على إحداث توازن مذهبي مهم (بمعناه السياسي وليس الطائفي)، وأن أي هزة للرياض أو تغييب للدور الذي تلعبه سيعني تحول التوازن المذهبي “السياسي” إلى صراع “طائفي” مثلما حدث وما زال يحدث في العراق وسوريا.

هذه الاعتبارات شكلت ضابطا أساسيا للسياسة التركية تجاه السعودية وقد رأيناها من قبل أزمة الحصار القطري، إذ إنه في الوقت الذي حرصت فيه تركيا على الاصطفاف مع الدوحة اقتصاديا وعسكريا، عملت على عدم خسارة السعودية، رغم الحملات الإعلامية الشرسة التي شنها الإعلام السعودي داخل المملكة وخارجها ضد تركيا وأردوغان.

ثلاث دلالات مهمة في خطاب أردوغان:

من هنا يمكننا فهم خطاب أردوغان والذي حمل دلالات متعددة رغم لغته الهادئة وعباراته المنتقاة بدقة وعناية.

الدلالة الأولى: تكذيب الرواية السعودية وتأكيد صحة التسريبات

لم يكن في وسع أردوغان الخوض في تفاصيل انتظرها كثيرون، نظراً لأن القضية منظورة أمام القضاء، وهناك مدع عام يتابعها ومعه فريق من البحث الجنائي، لذا عمد أردوغان إلى التركيز على بعض العناوين التي تنسف الرواية السعودية سواء الأولى أو الثانية، والتي بنيت على أن أساس “الوفاة” كما سموها كانت بسبب “شجار”.

لكن أردوغان أكد في كلمته حضور فريق قبل الحادث ومعاينته غابات بلغراد الشهيرة في إسطنبول، وأيضا نزع “الهارد ديسك” من كاميرات المراقبة الداخلية للقنصلية، ما يعني أن الأمر كان مرتبا له، وكانت الخطة تقتضي تصفية خاشقجي، وليس مجرد “استجوابه” وإقناعه بالعودة إلى المملكة

 وأردوغان إذ يفعل ذلك فإنه يأمل أن تشكل كلماته ضغطا على الرياض لتعديل روايتها – مثلما عدلته مرتين قبل ذلك – والاعتراف بالتفاصيل الدقيقة للجريمة التي وصفها أردوغان بـ”الوحشية”، ومن ثم محاكمة المتهمين المتورطين في الحادث بمعرفة الجهات القضائية التركية، وفق ما طلبه الرئيس التركي من العاهل السعودي.

الدلالة الثانية: تحييد “سلمان” والتلميح بتورط ولي العهد

كان لافتا في كلمة أردوغان توجيه الخطاب إلى الملك سلمان عدة مرات ومخاطبته بلقب “خادم الحرمين الشريفين”، والتأكيد على حكمته في مؤشر واضح على رغبة تركيا في الإبقاء على رمزية الدولة السعودية دون إهدار، والرد على الدعاوي التي يروج لها بأن تركيا تريد هدم الدولة وتفكيكها بالاستغلال السياسي لقضية خاشقجي.

لكن في الوقت ذاته ألمح أردوغان إلى دور ولي العهد محمد بن سلمان في الجريمة، إذ أكد على ضرورة محاسبة “السلم من أسفله إلى أعلاه” وأن الاكتفاء بمحاسبة رجال الاستخبارات المتورطين أمر لا ترضاه تركيا ولا المجتمع الدولي.

هنا يبدو واضحا أن الرئيس التركي يلقي بالكرة في ملعب الملك سلمان وعموم آل سعود على أمل التحرك لتقديم الجناة الحقيقيين للمحاكمة بمن فيهم محمد بن سلمان نفسه.

أيضا طرح أردوغان عدة أسئلة تتعلق بالجريمة ورغم أن إجابتها قد تكون معلومة له بل وللجميع إلا أنه آثر تركها مفتوحة بدون إجابة، وكأنه يقول للسعوديين أجيبوا عنها بأنفسكم، من خلال التعاون الصادق مع جهات التحقيق، خاصة أنه أشار إلى أن تأخير التعاون السعودي أدى إلى طمس أدلة كثيرة، أضرت سلبا بسير التحقيق.

الدلالة الثالثة: إمكانية تدويل القضية

طرح أردوغان في كلمته إمكانية اللجوء إلى تدويل القضية، وكرر عبارة “المجتمع الدولي” عدة مرات، الأمر الذي طرحه وزير الخارجية، مولود تشاووش أوغلو، في لقاء له مع وكالة الأناضول سبق به خطاب أردوغان وأكد فيه أن تركيا ستتعاون مع أي تحقيق دولي بشأن خاشقجي.

الرغبة التركية في تدويل الملف تجيء في ذات السياق الذي انتهجته منذ اللحظات الأولى للأزمة، إذ حرصت على إخراجها من إطار النزاع التركي – السعودي، إلى كونها أزمة عالمية تستوجب تكاتفا دوليا مما يوفر على تركيا تكلفة باهظة كانت ستكون مضطرة إلى دفعها. خاصة وأن أردوغان أشار إلى تورط دول أخرى في الجريمة، ما يعني أن تركيا كان عليها أن تواجه وحدها في العلن حلفا إقليميا.

هذا التدويل الذي تلوح به تركيا هل من الممكن أن تتحمل السعودية تكلفته؟ في ظل المأزومية الداخلية التي يعيشها ترمب – الراعي الأكبر لولي العهد السعودي – والهجوم المتواصل عليه بسبب علاقته بـ بن سلمان، ما دفعه إلى التنصل من الأخير وكشف الغطاء عنه، بل ومطالبته بتقديم تفسير معقول للجريمة.

تداعيات مفتوحة في اتجاه التصعيد:

رغم أن الكلمة – بحسب البعض – جاءت مخالفة للتوقعات، بل يشير آخرون إلى احتمالية تغير الكلمة في الوقت الأخير ربما نتيجة اتصالات معينة خاصة من جانب الولايات المتحدة، وهو ما أميل إليه نظرا للطريقة التي تحدث بها أردوغان يوم الأحد الماضي في منطقة تشيكمه كوي وهو يؤكد أنه سيعرض الحقائق بطريقة لم تعرض من قبل.

 لكن أيا كانت الأحداث التي دارت خلف الكواليس خلال الثماني والأربعين ساعة السابقة لخطابه، فإن الخطاب رغم هدوئه إلا أنه حمل في طياته تصميما تركيا على قطع شوط التحقيقات إلى نهايته وإظهار الحقائق للرأي العام المحلي والعالمي مهما كانت طبيعتها.

الأمر الذي سينعكس على العلاقات التركية السعودية دونما شك، خاصة إذا ظل التجاوب السعودي مع ملف القضية بالكيفية التي نراها الآن، والذي يحاول إطالة الوقت أملا أن يكون جزءا من الحل.

تركيا ليست على استعداد لخسارة رصيدها الأخلاقي ولا مكانتها الإقليمية، والأيام القادمة ستحمل في طياتها تطورات مهمة في ظل توالي الكشف عن أدلة جديدة، ومدى تجاوب الرياض مع الرسائل السياسية “الهادئة” التي تضمنتها كلمة أردوغان.   

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه