حُكْم قراقوش!!

 

من أشهر النماذج التي تضرب لغباء وجبروت الحاكم في تراثنا الشعبي المصري هو: قراقوش، وعندما يريد أحد التذمر والتعجب من تعنت أحد وتسلطه معه في التعامل، فيقول له: هو حكم قراقوش يا أخي؟!!

وقراقوش أو بهاء الدين قراقوش، هو شخصية تاريخية حقيقية، فمن هو؟ وهل كان حاكما مستبدا أم رجلا صالحا عادلا قويا؟ وهل ما حكي عنه من قصص فكاهي له أساس من الصحة؟ أم أنه محض كذب وافتراء على الرجل؟ هذا ما فصله الدكتور عبد اللطيف حمزة في كتابه: (حكم قراقوش)، وعبد اللطيف حمزة مؤلف الكتاب هو والد الإعلاميتين الشهيرتين: جيلان حمزة، وكريمان حمزة.

أصل قراقوش:

وقراقوش، اسم تركي، معناه: النسر الأسود، وهو لفظ تركي مكون من (قره) بمعنى أسود، و(قوش) بمعنى طائر. لا تكاد مصادر التاريخ تذكر شيئا واضحا عن نشأته، فكل ما يعرف عنه أنه فتى رومي خَصِيّ، ولد ببلاد آسيا الصغرى وكبر بها، فاتصل بضابط كبير هو أسد الدين شيركوه، ولذا لقب فيما بعد بقراقوش الأسدي، لأنه كان سيده الذي أعتقه. ولما حدثت اضطرابات في نهاية الحكم الفاطمي لمصر أرسل صلاح الدين الأيوبي قائده قراقوش، ليحاصر قصر الحكم بما فيه من كنوز، مخافة أن يهرب بها من تبقى من الفاطميين، واستطاع قراقوش السيطرة على قصر الحكم وما فيه، وضرب مثلا عظيما في الأمانة ونظافة اليد.

إنجازات قراقوش في مصر:

وعندما قام الحكم الأيوبي في مصر وخارجها، احتاج صلاح الدين الأيوبي إلى منشآت حربية ومدنية، كان من أهمها إذ ذاك إقامة الجسور، وتطهير الترع، وتشييد القلاع والأسوار المحيطة بالبلاد، لتقيها شر غارات الأعداء من الخارج، فانتدب صلاح الدين لذلك: بهاء الدين قراقوش، فأقام أول ما أقام (قلعة الجبل) وهي ما يعرف حاليا بقلعة محمد علي، فقد بناها قراقوش على أعلى الجبل، لتكون مطلة على القاهرة كلها، وقد اتخذت من بعد صلاح الدين مقرا للحكم، حتى عهد محمد علي، ثم في عهد إسماعيل انتقلت دواوين الحكم إلى دور أخرى وسط مدينة القاهرة.

وبنى قراقوش أيضا بعد قلعة المقطم، قلعة أخرى، تسمى قلعة (المقس) على النيل، وبنى بالقرب منها أبراجا أخرى على النمط الإفرنجي، ثم بعد هذه الأبنية شغل نفسه بمشروع آخر مهم لمصر، وهو إقامة سور عظيم على حافة الصحراء الغربية، قطع له الحجارة من الأهرام الصغيرة، وبناه تجاه الجيزة على مسافة بعيدة منها، وانتدبه صلاح الدين الأيوبي ليبني سورا يحيط بمصر والقاهرة، وقد فعل، ويروى أن مجرى العيون كذلك بناه قراقوش، والذي لا يزال أثره موجودا في مصر القديمة حتى الآن. ثم طلبه صلاح الدين ليرمم له سور (عكا) والذي اخترق عن طريقه الصليبيون للوصول للقدس واحتلاله، فرممه، وأثناء ترميمه، تعرض قراقوش ومن معه لحصار من الإفرنج لمدة عامين، أدار الحصار بشكل ماهر كبير.

مصدر الأكاذيب على قراقوش:

ثم مات صلاح الدين الأيوبي، وظل قراقوش رجل الدولة الأيوبية، وفيا لأبناء صلاح الدين، وحدثت خلافات بين الأبناء وعمهم، كان انحياز قراقوش لأبناء صلاح الدين، إلى أن استتب الأمر في مصر للعادل أخو صلاح الدين، وكان قراقوش في نهاية عمره، وقد اعتزل العمل، ثم مات. هذا موجز عن قراقوش فيما اتفقت عليه كتب التاريخ ملخصا، ولكن قراقوش لا يذكر إلا ومعه أديب مصري، اسمه: الأسعد بن مماتي، وقد وضع كتابا عنوانه: (الفاشوش في أحكام قراقوش)، ملأه بالسخرية والأكاذيب على الرجل، حتى قال مؤرخ عظيم عاش في أواخر الدولة الأيوبية وهو: ابن خَلِّكان فكتب ترجمة لقراقوش قال فيها: (والناس ينسبون له أحكاما عجيبة، في ولايته نيابة مصر عن صلاح الدين، حتى إن الأسعد بن مماتي له فيه كتاب لطيف، سماه: (الفاشوش في أحكام قراقوش) وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهرة أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان يعتمد في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته ما فوضها إليه).

فمن هو ابن مماتي كاتب الكتاب، وما سبب كتابته كتابا لا يمت للحقيقة بصلة، وهو مصري مسيحي من أسيوط، وكان جده ممن يعملون في الدواوين، وكان والده من كتبة الديوان في الجيش، وعلى ديوان الإقطاعات، وقد أحس والد ابن مماتي بالتضييق عليه لديانته، فأسلم هو وأبناؤه جميعا، وكان شعراء مصر يكتبون فيه شعرا ساخرا تندرا بإسلامه للمنصب. وبعد وفاة الأب قام الابن وهو الأديب المعني بحديثنا بالإمساك بوظائف أبيه، في ديوان الجيش، ثم بعدها ديوان المال، ويبدو أن ما كتبه الأسعد بن مماتي، كان من باب الحسد على بلوغ قراقوش مكانته وثقة الحكام به وبقدرته، وهي مكانة لم ينلها أحد غيره في زمانه، فكتب كتابه الساخر المملوء بالأكاذيب والحكايات المختلقة على الرجل.

خطورة القلم والإعلام في كل زمان:

لقد ثبت تاريخيا أن (قراقوش) لم يكن ظالما، بل كان من أعدل من مارس الحكم في مصر، وكان قويا حازما نابغا في إدارتها، ولكن إعلام زمانه، وهو الأدب وقتها، تسلَّط عليه، وهو درس التاريخ الدائم: أن الفكرة لا تقوى على محاربتها إلا فكرة، وأن صاحب القلم يمتلك وسيلة قوية يستطيع بها الهدم أو البناء، ولذلك كانت خطورة الكلمة والقلم، وهذا ما كان يخشاه محمد صلى الله عليه وسلم حين رفض قتل المنافقين، فقال: أخشى أن يقال إن محمدا يقتل أصحابه، أي أنه خاف من الحملة الإعلامية وراعى ذلك، ولذلك قال مؤلف الكتاب في مقدمته: (ألا ما أقدر الأدباء في كل زمان ومكان على أن يقلبوا الحق باطلا، والباطل حقا، والسخيف من أحسن الأعمال حسنا، الحسن سخيفا، وكم في تاريخ البشر من رجال عظماء أهملهم الأدب، وعفّى على آثارهم، ورجال ليسوا بعظماء أبى الأدب إلا أن ينهض بهم، ويخلق منهم بالكذب أبطالا يتغنى الناس بمدحهم، وهو ليسوا أهلا لهذا المدح!). وهو ما لم ينتبه إليه قراقوش الذي كان جنديا لا خبرة له بالأدب، ولا علم له بمدى قوته وخطورته، وكان حظه أن تسلط عليه لسان أديب أريب كابن مماتي، فصنع به وبشخصيته ما رأينا، ونسي الناس عدل الرجل وإنجازاته، أمام أكاذيب ابن مماتي.

درس بليغ من المؤلف:

الكتاب أصدره الدكتور عبد اللطيف حمزة سنة 1945م عن مكتبة الحلبي بمصر، ولكنه في نهاية الكتاب فعل شيئا يدل على نزاهته العلمية، ورد الجميل لأهله، فقد وضع في (برواز) في نهاية الكتاب هذه الجملة: (كلمة شكر: يسرني أن أقدم وافر الشكر، لحضرة الأديب، محمد عبد العاطي حلاوة أفندي الطالب بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، لاشتراكه معي في تصحيح التجارب). فأستاذ كبير بقامة عبد اللطيف حمزة يقدم طالبا بالجامعة بهذا التقديم والشكر، هو درس عملي لأهل العلم بالشكر لكن من يسهم في عمل علمي، حتى لو تقاضى عليه أجرا، وهو خلق للأسف، يغيب عن ساحتنا العلمية، فكم من مجلدات ضخمة يقوم على تحقيقها والعمل فيها شباب باحثون، ويوضع اسم مؤلف كبير لم يبذل فيه الكتاب معشار جهد الشباب، دون كلمة شكر واحدة، أو ذكر لفضلهم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه