حين تغازل كتالونيا إسرائيل!

حزب الـ”كوب” مثلا نشر على صفحته الرسمية “نحن لا نحترم ما تقوم به إسرائيل من احتلال واغتصاب واغتيال للشعب الفلسطيني.

  

كادت قضية الانفصال الكاتلاني عن إسبانيا بعد وأدِها، تغيب عن نشرات الأنباء العالمية وسط مُستجدات الحروب المفتوحة، لولا “هرتلة” كارلس بوجديمون (رئيس كتالونيا السابق) من حين لآخر.  تصريحات وتحرّكات تثير فضول الإعلام الإسباني والأوربي عموما في فترة حرجة يعيشها إقليمه. ورغم أن القضية تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى دَعم من أهلها وعلى رأسهم سياسيّيها، إلّا أن “هرتلات” هذا الرّجل رجعت بالوبال على الكاتلانيين وأثبتت أنه سياسيّ يُسجّل ضدّ مرماه، آخرها تغريدة على تويتر يُغازل فيها “إسرائيل ” ويُهنِّئها بـعيد ميلادها السَبعين.

أزمة التغريدة

 نصّ التغريدة ” مبروك إسرائيل في عيد ميلادكم الـ 70 لذكرى الاستقلال. نضالكم في وجه المِحَن وروح التّضحِية يكسب احترامنا في كتالونيا”.

 التغريدة نشرها بوجديمون يوم الخميس 19 أبريل/نيسان الجاري باللغة الإنجليزية وخَتمها بهاشتاغ بالعبرية، كان الإسرائيليون قد تداولوه بالمناسبة. وماهي إلّا سويعات حتى انهالت تصريحات السياسيين الانفصاليين تتبرّؤ من هذه التغريدة وتعيب على الرجل حديثه باسم كتالونيا.

التصريحات تواترت لتمتصّ غضبا كبيرا غصّت به مواقع التواصل الاجتماعي من طرف الانفصاليين وخصومهم.

  يجدر التّذكير في البداية بوضعية الرئيس السابق لإقليم كتالونيا، صاحب “التغريدة” الورطة حتى نقف على تداعياتها السلبية في وقت لا تحتمل فيه معركة الانفصاليين خسارات أكثر.

نظّم إقليم كتالونيا استفتاء في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي بخصوص الانفصال عن إسبانيا رغم إصدار الحكومة المركزية بمدريد قانونا يمنع إجراء هذا الاستفتاء من الأساس. ومرّت الحكومة الكاتلانية، بقيادة بوجديمون في وقت وجيز إلى تفعيل نتائجه التي أفضت إلى “نعم”. وما كان من الإدارة المركزية إلّا أن تمرّ بدورها إلى تفعيل الفصل الـ155 من الدستور الذي يُبطل نتائج الاستفتاء و يحسم هذه الخطوة بحلّ الحكومة ومُحاسبة بعض المسؤولين عن هذا “التّمرد” حسب قولهم. وفي الوقت الذي انتفض فيه الشارع الكاتلاني استنكارا لأحكام السجن الجائرة والخطايا المالية والمحاكمات المُهينة لبعض رموزهم، فاجأنا بوجديمون بسفره (بدون رجعة معلومة) إلى لكسمبورغ مع ثلّة من رفاقه لـ”تدويل المظلمة” على حدّ قوله. واستقر هناك. ورغم إصدار الحكومة الإسبانية برقية جلب بشأنه، إلا أن الرجل غادر لكسمبورغ إلى فنلندا للقاء سياسي وعند رجوعه عن طريق البر، ما كان من ألمانيا إلا أن أوقفته عند دخوله ترابها وأودعته السجن ثم أفرجت عنه شَرطِيّا. ووسط كل هذه البلبلة، مازال الرجل مواصلا “هرتلته” التي لا تليق بالمرحلة، فالقضية في أوج زخمها، ومَن يُفترض أنه القائد الرسمي لها، مازال مهووسا بالتغريدات التّائهة على التويتر (مثل البرادعي عند العرب)، إضافة إلى أنّه يُصِرّ في كل مرة أن يستعرض إتقانه لبعض اللّغات الأجنبية بمناسبة أو بدونها (ربما نكاية في رئيس الحكومة الإسبانية العاجز عن تركيب جملة بالإنجليزية).

   ولا تخرج تغريدة التّهنئة المذكورة أعلاه عن إطار هذه الاجتهادات البلهاء. فالانتقادات التي انهالت عليه اتهمته بأنه تقرّب غبيّ، إذ إنّ موقف إسرائيل حدّدته الحكومة المركزية في مدريد منذ بداية الأزمة، عندما استدعت رئيس هذا البلد آنذاك وحسمت أمر تحالفات المستقبل لصالح الوحدة الإسبانية لا الانفصال.

الهوى الصهيوني

 المشكل في التهنئة لا يقتصر على الخطوة في حد ذاتها، بل على اختيار الألفاظ أكثر، فبوجديمون بهذه التغريدة فضح هواه الصهيوني (غير المشكوك فيه، بناء على سوابقه وسوابق حزبه). إذ ينطلق الرجل باختيار لفظ “استقلال” عِوَض “قيام، أو نشأة” ويردفها بمعجم النضال، المِحن، التضحية، على أساس أن “إسرائيل” كانت تخوض حرب استقلال ضد مُحتلّ، ناهيك عن وصفها بأنها معركة تستحق كل الاحترام وهي بمثابة القُدوة لكتالونيا في معركتها نحو “الاستقلال”.

مُغالطات صنّفها أنصاره أنفسهم في باب الـ”سّقطات” و عجّلت بعض الأحزاب اليسارية، انفصالية كانت أو لا، بالتصريح أن هذه التغريدات تُلزم صاحبها فقط.. حزب الـ”كوب” مثلا نشر على صفحته الرسمية “نحن لا نحترم ما تقوم به إسرائيل من احتلال واغتصاب واغتيال للشعب الفلسطيني، ولا نقبل أبدا أي دولة فصل عنصري. من المُحزن أن تقع تهنئة دولة عنصرية صهيونية وقاتلة. إسرائيل يجب أن تُحاسب وتُغَرَّم”. وعلى تويتر نشر الحزب تغريدة مختصرة زكّاها بهاشتاغ “عاشت فلسطين حرة”. إضافة إلى هذا، نشر أعضاء هذا الحزب وغيرهم تصريحات وتغريدات تُبرّئ المنهج النضالي لمعركة كتالونيا من منهج إسرائيل القائم على انتهاك الحقوق الأساسية للإنسان.

من جهته نشر حزب “بوديموس كتالونيا” النص التالي “الدولة التي نريد هي دولة تضامن وسِلم. دولة مثل إسرائيل التي تواصل احتلال الأرض والشعب الفلسطيني منذ 70 سنة وتمارس الفصل العنصري، لا يمكن أن تكون مِثالا لكتالونيا ولا لتطلّعاتها من أجل الحرية”

 نائب يساري سابق كتب مُخاطبا بوجديمون “ما يُجبرك أن تكون بعيدا عن أرضك، ويحكم على آخرين من رفاقك بالسجن هو ظُلم من المفروض أن يجعلنا نحسّ أننا أقرب إلى الشعب الفلسطيني لا إلى إسرائيل”.

حرق شعبيته

   طبعا موجة الاستنكار لم تنقطع من يومها، ولم يُفلح بوجديمون في تدارك تداعيات هذا الخطأ. باعتبار ثبوت مُيولاته وحزبه منذ زمن للسياسات الإسرائيلية والحلم بدعمٍ مُحتمل إلى اليوم في ظل الخذلان الذي تعيشه كتالونيا من طرف المواقف الدولية.

ميولات ترجمها سابقه “أرثور ماس” إلى أفعال على إثر زيارتيْن إلى تل أبيب عزّزت شراكات اقتصادية ولوجيستية بين الطرفين. لكنها أفعال حرقت ورقة شعبيته إلى الأبد. رسالة سياسية واضحة لم يُخطئ الكتالانيون قراءتها، لكن يبدو أنها استعصت على بوجديمون. جنى الرجل على مستقبله السياسي بسبب لحظة بَوح كان من الأجدر أن يكتمها في قلبه. اندفاع خالٍ تماما من التعقّل سيبقى وصمة عار في تاريخه السياسي الهَشّ، والذي يعترف الانفصاليون أنفسهم أنه وصل الزعامة بالصدفة، وهو “رجل خطأ في قضية عادلة”.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه