حول الإمام المتغلب!

“ما دفعني إلى هذا الحديث هو استغرابي ممن يحاول حتى الآن عن قصد أو عن جهل أن يسقط قانون الغاب هذا على حياة البشر بل ويستشهد بالأدلة والأحاديث والقياس على جواز حكم “إمامة المتغلب”

نور الدين عبد الكريم*

لم تُـــتح لي فرصة مشاهدة فيلم (Two Days One Night) الفرنسي، فإنتاج فرنسا يصلنا متأخراً عن إنتاج الهوليوود، أو قد يكون معدوماً. ولكن قرأت في إحدى صفحات العالم الأزرق تعليقاً واختصاراً لهذا الفيلم. القصة باختصار تعود لموظفةٍ تضطر أن تتغيب عن عملها لعلةٍ صحيةٍ ألـمَّت بها. وبمجرد أن يلاحظ زملاؤها ومديرُهم أنهم أصبحوا قادرين على أداء عملها دون حضورها تصبح مهددةً بخسارة وظيفتها خلال يومين وليلة –ومن هنا جاءت تسمية الفيلم-، ثم يتوقف البتّ في ذلك على نتيجة تصويتٍ يجريه فريقُ العمل بإشراف مديرهم.
 هكذا بكل بساطة؛ أصبحت المسكينة مهددة بأن تخسر وظيفتها وأحد بابـَيْ رزق عائلتها الصغيرة لمجرد مصلحةٍ ومنفعةٍ يرغب زملاؤها أو بعضُهم جنيها بعد إبعادها مقابل أن يضيف كل واحد منهم ساعة عمل إضافية في كل يوم من أيام عمله.
قادني التفكير بما قرأت إلى أن مشاهدة هذا الفيلم قد لا تفرق عن مشاهدة برامج الحيوانات المفترسة التي تعيش ضمن قانون متوحش نشأت عليه جيلاً عن جيل تخلّقت وجُبلت عليه حتى أصبح غريزة مستساغة عندها. قانون لا يعرف عهداً ولا ميثاقاً ولا مبدءاً إلا ذلك الذي يقر بأن القوي من حقه بسط قوته على من هو دونه، وأن الضعيف من الواجب عليه أن يكون ضحية للأقوى ينصاع لرغبته ويكون تحت أمره حتى لو كان الثمن روحه. إنه قانون الغاب.
العقد في عالم البشر عهدة المتعاقدين وميثاقهم، ويُلزم ذلك احترامه واتباعه وعدم الإخلال به دون وجه حق. وبدونه يصعب على الإنسان تخطيط مسار حياته وتنفيذ مخططاته التي ينمّي من خلالها مكانته ووضعه بين أقرانه. لو تخيل أحدنا أنه مهدد بأن يخسر وظيفته ومصدر رزقه بين عشية وضحاها وبدون سابق إنذار ولا سبب ولا عذر فأي حياة سيعيش، وأي أسرة أومجتمع سيبني. هذا إن كان على مستوى الوظيفة، فما بالك لو كان الأمر على مستوى نظام حكم الدولة ورئاستها ومؤسساتها ودستورها.  
ما دفعني إلى هذا الحديث هو استغرابي ممن يحاول حتى الآن عن قصد أو عن جهل أن يسقط قانون الغاب هذا على حياة البشر في زماننا المعاصر، بل ويستشهد بالأدلة والأحاديث والقياس على جواز حكم “إمامة المتغلب” وبالتالي يحاول أن يفرض أمر السمع والطاعة لهذا “المتغلب” على الناس، ويحرّم عليهم رفضه ورفض نظامه الذي جاء معه أو به، وهو بذلك يشرّع للبشر أن يعيشوا حياة الحيوانات المفترسة. والحديث في هذه السطور على عجالتها ليس في معرض مناقشة هذه الآراء من الناحية الفقهية والشرعية، وإنما يهدف لوضع القاريء العزيز في الصورة المتوقعة لحياتنا إن أخذنا بهذا الرأي على عواهنه دون تفكر ولا تثبت ولا تأمل في عواقبه.
يطلعنا المورخ المصري الراحل محمد جلال كشك رحمه الله في كتابه “ودخلت الخيل الأزهر” على حقبة من تاريخ أمتنا الإسلامية كان تداول السلطة فيها يتم بعرف سائد تعارف عليه أفراد الشعب يجيز لهم أن يذعنوا بالسمع والطاعة لمن يأخذ الحكم بالقوة ممن هو على رأسها، بل ويحرم عليهم الخروج عليه وعصيان قراراته ودستوره حتى يأتيه من هو أقوى منه وينتزعها كما انتزعها مِن سلفه، وهكذا دواليك. ذكر المؤرخ الراحل هذه الحقبة وطبيعة نظام الحكم السائد وقتها وتأثير هذا التداول للسلطة على أرض الواقع وحياة الناس ومجتمعهم في معرض حديثه عن حكم المماليك لأرض مصر. حيث ذكر أن المماليك كانوا المؤسسة العسكرية التي تدير شؤون الدولة، وكان الشعب يعيش في معزلٍ عنها لا يتدخل في صراعات أفرادها ولا تنازعاتهم على السلطة، وإنما يجتمعون على ما اجتمع عليه المماليك. أما المماليك فقد كانوا يتبعون أمراءهم، فحيث ما أن يُنهي كل مملوك تدريبه العسكري ويتحول إلى “محارب من الطراز الأول” إلا ويتبع أميره الذي اشتراه أو استقدمه وجلبه من بلاده، وهذا الأمير يكون مملوكا بالأصل وتابعاً لأمير أعلى منه، وفوق كل أمير أمير، وهكذا حتى الوصول إلى أعلى هرم السلطة. وكان من الأمور المتعارف عليها –وهنا بيت القصيد وقصرُه- أن من يقتل أميراً يأخذ مكانه ويتولى منصبه ويرأس تابعيه ويرث ماله وعتاده.
 وإذا عرفنا أن المقاتل المملوكي على ظهر فرسه كان بقوة فرقة فرسان كاملة من المقاتلين الآخرين –كما ذكر المؤرخ- فإن نقطة ضعفه كانت نزوله عن ظهر جواده أو غفلته عن سلاحه. ولطالما اشترى الأمراء الآخرون ولاء المماليك التابعين للأمير المستهدف بالمال والوعود والمناصب، أو ربما تآمر المماليك على أميرهم وبيتوا نية الغدر به لحظة غفلته أو نزوله عن جواده أو تجرده ولو لبرهة من الزمن من سلاحه. وأسوء ما في هذا العرف ما اتفق عليه المماليك أنه حتى يتم الاعتراف بانتقال السلطة من المملوك المغدور إلى المملوك الغادر يجب أن يقوم الأخير بفصل رأس الضحية عن جسده ويسير به أمام أتباعه فارضاً ولاءهم له وتقلده منصبه، وما أن يرى أفراد الشعب هذا المنظر حتى يقروا ويعترفوا بانتقال هذه السلطة إلى أمير جديد سيكون له قوانينه وقراراته الجديدة في إدارة شؤونهم وحياتهم. وقد ذكر المؤرخ الكثير من الأمثلة والشواهد على تطبيق هذا القانون في ذلك العصر. وربما كان قائد معركة عين جالوت العظيمة “سيف الدين قطز” أحد أشهر ضحايا قانون الإمام المتغلب هذا. فبعد أن حقق قطز إنتصارا للمسلمين في هذه المعركة عاد بجيشه إلى مصر وفي طريق العودة تآمر “الظاهر بيبرس” مع بعض الأمراء على الغدر به واستغلوا فترة التهائه بصيد الأرانب فتقرب أحدهم لتقبيل يده ليفاجئه بيبرس بقطع رأسه بالسيف معلناً تقلده منصبه.
هذا باختصار هو ما أفرزه إقرار أهل العلم في ذلك الوقت والشعب من حولهم لمبدأ شرعية الإمام المتغلب وتهاونهم به. يقول القاضي والفقيه الشرعية عبد القادر عودة رحمه الله: “ولقد قبل الفقهاء إمامة المتغلب اتقاء للفتنة وخشية للفرقة، ولكنها أدت إلى أشد الفتن وإلى تفريق الجماعة الإسلامية وإضعاف المسلمين، وهدم قواعد الإسلام، ولو علم الفقهاء الذين أجازوا ما سوف تؤدي إليه لما أجازوها لحظة واحدة”.
فهل يعي هذا من لا يزال يشرع إمامة المتغلب ويجيزها لأصحاب القوة؟
وهل “أخف الضررين” جائز إن كان سيأتي بضرر ثالث أعظم من كل ما سبقه؟
وهل رزقنا الله عقولاً نتفكر بها ونقرأ بها تاريخ من سبقنا لنتعظ ونتجاوز أخطائهم أم لنكررها بما هو أمر وأنكى؟
وأخيرا، هل يجرؤ أصحاب هذا الرأي أن ينقلوا لإمامهم المتغلب عقبات تغلبه وتشريعهم هذا القانون؟

_________________ 

*باحث أردني مقيم في ماليزيا

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه