حوار مع هشام عشماوي

(1)

عثرت عليه في دروب الخيال، داخل كهوف الصحراء الغربية المليئة بالألغام التي تسمم جسد مصر، كان صامتا كجبل من الهم، مغبرا كرمال الصحراء المهملة منذ قرون، فسألته:

هل أنت هشام عشماوي؟

لم يرد

كررت سؤالي: هل أنت ابو عمر المهاجر؟

لم يرد.

غيرت صياغة السؤال وقلت له والحيرة تحاصرنا معاً: من تكون؟

رفع رأسه المستند على نتوء في جدار الكهف، فرأيت عينيه الغائرتين كأنهما بئر أسود بلا قرار، ليس فيه إلا الفراغ، وقال بصوت يختلط بالصدى: تقدر تناديني أبو دبورة، يحيى أبو دبورة.

سألته والدهشة تفترش ملامح وجهي: أنت يحيى؟ يحيى المنقباوي بطل أرض الخوف، الضابط الذي زرعته الأجهزة في قلب العصابات، ثم تم إقالة القادة بتهمة الفساد فظل عالقا بلا هوية، عقله مع المخابرات والشرطة، وحياته تنتمي بواقعية كاملة إلى عالم الجريمة والعصابات؟

لم يرد

(2)

بعد فترة من الصمت سألت الشبح الموزع بين هويتين: أنت مش كنت ضابط صاعقة ولك مستقبل كبير، ليه تمردت على الجيش وعملت في حياتك كده؟

قال متسائلاً بجدية: عملت إيه؟

قلت: أصبحت إرهابيا منبوذا تطاردك الأجهزة التي كنت منها ذات يوم.

قال: أنا ما اتغيرتش، أنا استيقظت ذات يوم، فلم أجد أحدا من الزملاء حولي، اختفى المعسكر، واختفت الأسلحة، وجداول التدريبات، وجدت نفسي كما تراني هنا منبوذا في الصحراء، أحاول حماية نفسي من الأعداء الذين تدربت على محاربتهم.

قلت: بس أنت لا تحارب الأعداء يا يحيى، أو يا هشام، أو أيا كان اسمك؟

قال: أنا أتبع التعليمات كما سمعتها وتدربت عليها، أنا أقاتل من أجل بلدي، ولا أعرف أين هرب الباقون؟ وأين يختبئون الآن؟ ولماذا تركوني وحيدا مع أعداد قليلة من المنبوذين مثلي من غير زاد ولا سلاح.

(3)

نظرت في عينيه متفحصا الفراغ الذي يملؤهما لعلّي ألمح شيئا يفسر لي حالة الرجل الغامض، فقد بدأت أشك في إصابته بحالة فصامية أو نوع من اللوثة الذهنية، لكنني لم أر شيئا إلا السواد الغامض الذي يبث القشعريرة في الجسد، وانتبهت على صوته الغريب وهو يحوقل: مش هتشوف حاجة، لقد اختفت عيون الجميع، فأنت أيضا لديك نفس الحفرتين في وجهك، لكنك لن تراهما إذا نظرت في المرآة، بينما غيرك يراك كما تراني، كلنا بلا رؤية أيها العابر الساذج.

(4)

ما شاء الله، تتحدث بلغة الأدب وتهويمات الفلسفة بينما أنت قاتل خسيس تقود عصابة من المجرمين لإرهاب بلدك، ألم تشارك في قتل خيرة جنود الوطن في جريمة الواحات الأخيرة؟

قال وهو ينهض من رقدته ويدير ظهره نحوي: أنا لا أقتل إلا أعداء الوطن، لقد تربيت وتدربت على ذلك، وأنا على عقيدتي لم أتغير، لقد حدثت أشياء كثيرة في حياتي لا أستطيع تفسيرها، وسوف أشكرك من كل قلبي إذا ساعدتني على فهم ما يحدث.

(5)

ماذا تريد أن تفهم؟

أريد أن أعرف من هو العدو الذي تدربنا على محاربته، وأريد أن أعرف لماذا يلومني البعض على القتال ضد أعداء بلدي، وأريد أن اعرف لماذا اختلفت عقيدة القائد الذي طلب مني القيام بعملية “أرض الخوف”؟

لا تراوغ يا مجرم، لقد قتلت قبل أيام فقط، أكثر من 50 ضابطا وجنديا من حماة الوطن.

التفت نحوي وهو يمسك كتفي بيديه ويقول: إذا كنت تقصد ما حدث في “وادي الحيتان”، فيجب أن تعرف إنها “عملية عسكرية احترافية كاملة الأركان”، وأعتقد ان قادتي يجب أن يفخروا بي، لأنني استطعت أن أصد هجوماً معادياً كان يريد النيل مني ومن زملائي، فبادلتهم الحرب بالحرب، والقتل بالقتل، فأعدائي لم يأتوا إلى الصحراء حاملين الماء والطعام وباقات الزهور، لكنهم جاؤوا لقتلي، وحسب قواعد اللعبة، فقد كسبت المعركة وقتلت من تحرك لقتلي.

قلت زاعقا: لكنهم لم يكونوا أعداءً، بل ضباطا من حماة أمن الوطن.

قال وهو يضرب بقبضته على صدره: وأنا أيضا ضابط مثلهم من حماة الوطن، فلماذا يحق لهم أن يقتلوا ويعذبوا ويخالفوا القوانين باسم حماية الوطن؟.. لاشك في أنهم خونة خرجوا على مصلحة الوطن، ويقفون مع الأعداء في خندق واحد، وقد شاهدت بعضهم وهم يصافحون الأعداء، ويحتضنون قتلة رفاقي الشهداء، ويضحكون مع قادة العصابة الصهيونية، ويحرصون على أمن “المواطن الإسرائيلي”، جنبا إلى جنب مع “المواطن الإسرائيلي” برضه.

(6)

أنت بتلف وتدور يا أبو دبورة، وأنا مش مستوعب المنطق اللي بتتكلم به، أكيد فيه حاجة غلط.

قال وهو يحني رأسه مصوبا نظرته إلى “البيادة”: أيوه، أنا كمان مش مستوعب كل اللي بيحصل، وبأقول زيك: أكيد فيه حاجة غلط، أكيد فيه حاجة غلط.

أكيد فيه حاجة غلط. 

(7)

أكيد فيه حاجة غلط

غلط

غلط

غلط

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه