حقوق الإنسان للبيع!

حقوق الإنسان تجارة وصفقات عند الغرب، ومن يريدها لا يعوّل عليه، يُناضل في سبيلها، هكذا تُبعث الأمم والشعوب الحيّة من مراقدها.

هناك تطلّع دائم نحو العالم الحرّ لممارسة الضغوط على أنظمة الاستبداد للعناية بحقوق الإنسان، والكفّ عن الانتهاكات الصارخة تجاه شعوبها بما تملكه عواصم الديمقراطيّات من مكانة دوليّة، وقوة سياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، ومنظومة أخلاقيّة وإنسانيّة مفترضة، ولما لها من تأثير ونفوذ كبيرين، ومن كونها ترفع شعارات الدفاع عن قيم حقوق الإنسان والحريّات والعدالة، وتعمل على نشرها في العالم غير الحرّ.

هذا أساس نظري جيّد، لكن غير الجيّد أن التطبيق العملي يسير في وادٍ آخر، فالغرب الذي بنى حضارته ونهضته على قاعدة التنوير والتحرير للعقل والإنسان من سلطة التملّك والطغيان والانتهاك المتوحّش لكل حقوقه يتخاذل عن القيام بدوره في انتشال الغارقين في مستنقعات التخلف، وظلاميّة السياسة، وتوحّش الديكتاتوريّات، والطامّة أنه يتورّط كثيراً في دعم أوضاع سياسيّة، وأنظمة حكم، وأنماط تفكير، تكرّس البقاء في دوائر الديكتاتوريات الباطشة، ويقوم أحياناً بتشجيع الإطاحة بالديمقراطيات المُنتخبة، لصالح السلطويّات العسكريّة، أمريكا دعمت انقلابات عسكريّة عدّة، في اليونان، وفي دول أمريكا اللاتينيّة، وهي وأوربا مشتبه في تواطؤهم بشأن انقلاب يوليو/تموز 2016 على الحكم المدني الديمقراطي في تركيا.

دور الإنسان

لا يحكّ جلدك مثل ظفرك، هذه المقولة تؤشّر على أن التحوّل نحو الأفضل هو دور الإنسان ذاته، لا يجب أن ينتظر عوناً خارجياً، ولا يتطلع إلى الذي لن يستمع إليه بإنصات، أو يستجيب له باهتمام، خصوصاً في ظل أوضاع اضطراب عالميّة تختلف في الدرجة من منطقة لأخرى، ومن بلد لآخر، وتُتخذ مبرراً لتتهرّب الديمقراطيات العتيدة من التزامات أخلاقيّة تجاه المقهورين في هذا العالم، فالإرهاب مثلاً صار مشجباً تعلق عليه عواصم الغرب ذرائعها في غضّ الطرف عن القمع والانتهاكات في الشرق، بل وتسوّغ للمُستبدّين مواصلة العصف بأدنى الحقوق، والتكميم العام للأفواه، ونشر الخوف، وسلب حق الشعوب، ليس في التعبير عن الموقف السياسي فقط، إنما مجرّد البوح بمصاعب الحياة قد يصير جريمة.

الشاعر الراحل أبو القاسم له بيتان خالدان صارا مُلهمين للتغيير والإصلاح الذاتي، وانتزاع الحقوق من براثن خصومها:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة     فلا بدّ أن يستجيب القدر

ولا بدّ لليل أن ينجلـــي             ولا بدّ للقيد أن ينكسر

وقد تمّ تجريب هذه الطاقة الشعريّة الهائلة بشكل عملي في بلد الشاعر نفسه قبل سبع سنوات، فلمّا أراد الشعب التونسي الحياة فإن القدر قد استجاب له، وقد نجح في إزالة عهد، والدخول في عهد جديد، ولمّا أرادت شعوب عربيّة أخرى وضع قاعدة الشابي موضع التنفيذ العمليّ كان لها ما أرادت.

هذه نماذج للتغيير النابعة من مواطنها وبيئاتها المحليّة التي تستغني عن الخارج الذي هو أقربُ للوهم، والذي لم يثبت يوماً أنه دعم تحولاً تجاه الديمقراطيّة، لكن الثابت أنه تواطأ بشكل علنيّ أو سريٍّ لضرب ديمقراطيّات ناشئة، ومُساندة استبداد متوحّش.

وليس بالضرورة أن يكون التغيير ثورياً على الدوام، فقد يأخذ أشكالاً أخرى من النضال السياسي السلمي طويل النَفَس حتى يُدرك المستبدّ أنه لا مناصَ من الاستجابة للمطالب المشروعة في الإصلاح التدريجيّ، ولدينا نموذج ميانمار ونضال زعيمة المعارضة أونج سان سوتشي، مع استنكار تخاذلها المُشين بعد ذلك عن إنصاف أقليّة الروهينغيا وخذلانها للقيم والمبادئ التي آمنت بها، حيث قادت التحوّل الديمقراطي وجعلت الحكم يأخذ صبغة مدنيّة، مع تحجيم دور المؤسسة العسكريّة.

لابد من القوة

ماذا حدث بعد ذلك للربيع العربي الذي كان الجميع مُنتشياً بما أبدعه الشابي، وكأنه عاد للحياة ورأى الأوضاع وقام بنظمه، ومن لم يكن سمع عنه صار يردّده ويتغنّى به؟ الذي حدث قضيّة أخرى تتعلق بأن انتزاع الحق الفطريّ لأي شعب في أن يعيش حرّاً كريماً سيّداً لنفسه لا يكفي، إنما لا بدّ من قوة تحمي هذا الحق، وتحافظ عليه، ولا تفرّط فيه.

في تونس كانت يقظة المجتمع، ودرجة معقولة من الوعي الشعبيّ، وتفاهم نخبها، وتنازلاتهم لبعضهم بعضاً، ورغبة الجميع في التوافق الوطنيّ، وتقديم الثورة على هدف الاستحواذ على السلطة، من عوامل القوة التي ساهمت في حماية الثورة من الدخول في نفق الأزمة، والالتفاف عليها، ولمّا لم تتوفّر تلك العوامل في البلدان الأخرى كما تونس، فإن الثورات انتهت إلى طريق الآلام والدموع والحروب، وبات اليوم مجرّد الحق في التعبير عن الرأي بحرية أملاً عظيماً في دول، وبات مجرّد عقد هدنة لأيام من الاقتتال الأهليّ حلماً في دول أخرى.

الغرب الذي يُمثل العالم الحرّ على ضفتي الأطلسي والممتدّ من أوروبا إلى أمريكا ليس المُنقذ للنخب والشعوب المُتطلعة إليه لاسترداد حقوقها الطبيعيّة، فهذا عملها هي بالأساس، والغرب لم يكن يوماً مُحارباً نيابة عن شعوب أخرى لا تخصّه لانتزاع حقوقها، ولن يكون كما نظنّه وكما يطرق أبوابه أو يدعوه باستمرار نفر من المقهورين، أو دعاة حقوق الإنسان.

انتهازية الغرب

الغرب انتهازي، بنى حضارته الحاليّة على نهب خيرات الشعوب التي استعمرها، ولم يترك مكاناً في الكرة الأرضيّة وصل إليه إلا ونزح منه كل ما طالته يداه، وانتهازية الغرب عقيدة ثابتة تلازمه حتى بعد رحيله عن المستعمرات القديمة، الرحيل كان عسكرياً فقط، لكنه لا يزال باقياً في استعمار ثقافي وفكري واقتصادي وسلوكي وسياسي أيضاً عبر أنظمة وحكام وكلاء له يُشجعهم ويحميهم طالما يحققون أهدافه، لذلك لا ينتظر أحد الراحة ونيل الحقوق عن طريقه.

مصالح الغرب هي الأهمّ والأولى بالرعاية حتى لو كانت مع أنظمة غارقة في القمع والاستبداد. ماذا نجني؟، وكم عدد الاتفاقيات والمشروعات والأموال التي سيدفعها هذا النظام أو ذاك من اللحم الحي لشعبه؟، هذا هو سؤال الحاكم الديمقراطي في عواصم الحريّات والأنوار السياسيّة، وبناءً عليه تُفتح أبوابها بحفاوة لمن سيدفع أكثر، أو يتماهى أكثر مع أجندته.

وحتى لا تكون قضية حقوق الإنسان حائط مبكى العرب، نخباً وفئات شعبيّة، فقد جاءتهم الفرصة التاريخيّة، وحققوا ما أرادوا، وغيّروا أنظمة، وحكموا، وعاشوا مناخ الحريّات والحقوق حتى الثمالة – إذا جاز الوصف – ثم هم بأنفسهم كان لهم دور كبير في إهدار الفرصة، والتفريط في التغيير، وتضييع حلم الإصلاح وبناء الأوطان الجديدة، عليهم محاسبة أنفسهم أولاً وبقسوة.

النخب الحاليّة تثبت خيانتها للحريّة وعدم جدارتها بالقيادة، وهي ستتآكل وتختفي، لتظهر أجيال جديدة ربما تكون مؤتمنة حقاً، وأكثر جدارةً، بحمل المشعل النفيس.

حقوق الإنسان تجارة وصفقات عند الغرب، ومن يريدها لا يعوّل عليه، يُناضل في سبيلها، هكذا تُبعث الأمم والشعوب الحيّة من مراقدها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه