حفتر ومشروع فرنسا الاستعماري في ليبيا

ترفض فرنسا قيام حكم مستقل في ليبيا لأنها ترى أنه سيهدد نفوذها الاستعماري في غرب أفريقيا ودول الساحل الأفريقي.

 

الدعم الأمريكي والأوربي لتسليم السلطة في العالم العربي لحكومات عسكرية في مواجهة الثورات وصلت إلى طرق مسدودة في السودان والجزائر وليبيا، فالشعوب لم تعد راضية باستمرار التجارب الاستبدادية الفاشلة، ولم يعد مقبولا إزاحة نظام وبناء نظام آخر من نفس الدوائر العسكرية الموالية لدول الغرب.

الشعوب اليوم أصبحت أكثر وعيا، وتعلم أن معركتها الأصلية مع قوى الهيمنة والاستعمار، وهي ليست ضد العسكريين الوطنيين وإنما ضد العسكريين الذين قرروا التحالف مع الخارج ومصادرة صناديق الانتخابات وعدم الاعتراف بحق الشعوب في اختيار حكامها.

دول الغرب التي كثيرا ما كانت تطالبنا بالديمقراطية انقلبت على نفسها عندما جاءت الصناديق بقوى إسلامية ووطنية تسعى للاستقلال، فأيدوا القمع والاستبداد ومصادرة الحريات، وأظهروا لنا أنياب دراكولا، بل وانخرطت دولة مثل فرنسا في العدوان على الشعب في مشروع دموي تخريبي لحكم ليبيا.

ترفض فرنسا قيام حكم مستقل في ليبيا لأنها ترى أنه سيهدد نفوذها الاستعماري في غرب أفريقيا ودول الساحل الأفريقي الممتد من تشاد إلى موريتانيا، وتستعين في هذه الجريمة ضد الشعب الليبي بالمحور العربي الذي تقوده الإمارات “ذراع إسرائيل” بالمنطقة.

تدعم فرنسا حفتر بالطيارين وقد اعترفت بذلك، ويقود ضباط فرنسيون غرف العمليات، وقد اضطر ضباط فرنسيون ومعهم أوربيون كانوا يقودون عملية غزو العاصمة الليبية للهروب إلى تونس بعد فشل المشروع الميليشياوي في السيطرة على طرابلس وكانت فضيحة دولية موثقة.

استنساخ النموذج المصري!

هناك صعوبة في استنساخ الحكم العسكري المصري في ليبيا لاختلاف طبيعة النظام في كلا الدولتين؛ ففي مصر كان الجيش هو الذي يحكم منذ حركة الضباط الأحرار في 1952 وظل الوضع مستقرا حتى ثورة يناير 2011 عندما تخلى الجيش عن حسني مبارك بسبب سعيه لتوريث الحكم لنجله جمال، واعتبر العسكريون قبوله بنقل السلطة إلى المدنيين خيانة للمؤسسة العسكرية.

أزاحت ثورة المصريين السلمية حسني مبارك ونظامه ولكن قيادة الجيش استطاعت امتصاص موجة الغضب ومسايرتها والالتفاف عليها، وتم إجراء الانتخابات البرلمانية ثم الرئاسية تحت قوة الضغط الشعبي، ولكن سرعان ما حل الجيش البرلمان لتحجيم نفوذ الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي، لجعله يقف وحيدا محاصرا بدون أي صلاحيات، حتى تم الانقلاب عليه وتثبيت السلطة العسكرية التي لم تكن قد تزحزحت عن مواقعها.

الوضع في ليبيا يختلف عن مصر، فلا يوجد نظام ولا جيش؛ فالثوار في ليبيا لجؤوا إلى السلاح للطبيعة القبلية للمجتمع الليبي والعنف الدموي الذي قوبلت به الثورة، فتم تفكيك جيش القذافي وأجهزته الأمنية واستولى الثائرون على أسلحة الجيش التي تفرقت بين القبائل.

لقد أسقط الثوار الليبيون النظام بالكامل، ولكنهم لم يستطيعوا بناء النظام الجديد، بسبب التدخل الخارجي الذي أفسد على الثوار انتصارهم، واستعانت القوى الخارجية المعادية للثورة بالمال والإعلام ودعمت شخصيات تابعة، واشترت ولاء الكثير من قادة القبائل، وأثارت الفتن بين كل المكونات السياسية والقبلية، فدخلت ليبيا في دوامات مفتعلة، وتشكلت حكومة ضعيفة بلا جيش، فسقطت العاصمة في قبضة الميليشيات إلى أن استعاد الثوار زمام المبادرة في عام 2014 بتشكيل “فجر ليبيا”.

كانت عملية فجر ليبيا مشروعا عسكريا ثوريا استعاد السيطرة على العاصمة ثم الغرب الليبي وتمدد شرقا حتى اقترب من طبرق على الحدود المصرية، ولكن هنا تدخلت فرنسا ودول الغرب بدعم عربي لمنع الثوار من السيطرة على كل التراب الليبي.

عاشت ليبيا اللعبة الغربية المكررة في عالمنا العربي والإسلامي وهي صناعة طرفين، وتقوية الطرف الأضعف ثم الضغط على الطرف المتمرد حتى الاستسلام والقبول بالوساطة الغربية التي تدير الصراع، وهنا يتم التلاعب بالطرفين لتعقيد الصراع وليس حله.

تم استدعاء حفتر ليقوم بالمهمة وتداعت الدوائر الرافضة لاستقرار ليبيا لتشكيل قوة عسكرية له، وتوسيع سيطرته في الشرق بالقوة المسلحة، وصلت إلى الهجوم على القبائل الرافضة لمبايعته، واستطاع حفتر بالإرهاب وتخريب المدن فرض سيطرته على شرق ليبيا، وساعده الدعم الجوي الأجنبي في تدمير كل خصومه في المنطقة الشرقية.

إضعاف الغرب الليبي

ما فعلته فرنسا وحلفاؤها في الشرق لم يكن سهلا تكراره في الغرب، نظرا للثقل العسكري للقبائل الغربية وخاصة مصراتة التي تعد القوة الضاربة للثورة الليبية، ولها الكلمة في مجريات الأحداث، فكانت لعبة التفكيك التي قام بها مبعوثو الأمم المتحدة والمندوبون الدوليون.

استغلت الأمم المتحدة الاحتياطات الليبية المجمدة وعائدات النفط في تطويع كل الأطراف وقادت عملية مفاوضات واسعة جذبت الجميع، ونزلت على الأرض بدعوة كل الشخصيات الفاعلة من السياسيين وزعماء القبائل إلى الزعامات المحلية، ونظمت المؤتمرات حتى نجحت في عزل الحكومة المحاصرة التي تكونت بعد الثورة، وتم عزل كل من رفض الاستجابة ووضعه على لوائح الإرهاب.

استخدم المبعوثون الدوليون الإغراء بالمال والتخويف بالملاحقة الدولية حتى نجحوا في تشكيل حكومة الوفاق بعد الاتفاق الموقع في الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر 2015 وإلغاء الحكومة، بل ولاحتواء التكوينات المسلحة بالعاصمة وافقت الأمم المتحدة على تقديم الرواتب للجميع بشرط الولاء لحكومة الوفاق.

الانقلاب على الأمم المتحدة

في الحقيقة لم تقبل فرنسا وقوى دولية أخرى بحكومة الوفاق لأن القوى الرئيسية في الغرب الليبي التي سيكون لها القرار فيما بعد خارجة عن السيطرة الغربية ومعادية للفرنسيين، فحدث الانقلاب على حكومة فايز السراج التي شكلتها الأمم المتحدة ولم يحترموا الاعتراف الدولي بها، فرتبوا الغزو العسكري للعاصمة طرابلس وفرض خليفة حفتر رئيسا لليبيا بقوة السلاح!

كانت حساباتهم خاطئة وأعماهم الطمع فرتبوا للانقلاب العسكري على التسوية السلمية، فانقلبت كل الحسابات وتغيرت المواقف في المنطقة الغربية، فرئيس حكومة الوفاق اعتبر الغزو خيانة من القوى الدولية التي كانت تتفاوض معه للقبول بمشاركة حفتر في حكومته، وانقلابا عليه هو شخصيا.

لقد نجح الغزو العسكري للعاصمة في توحيد معظم الأطراف القوية وكان سببا في توحد كل الفرقاء في الجهد العسكري دفاعا عن العاصمة، واتفقت كلمة مصراتة على قلب رجل واحد وألقت بفلذات أكبادها في المعركة، وعاد الثوار بكل ثقلهم إلى الميادين ومنعوا ميليشيات حفتر من دخول طرابلس وكبدوه خسائر كبيرة.

مشروع حفتر ساقط منذ البداية ولكن كانت المغامرة بغزو العاصمة هي القاصمة، فكل العوامل تؤكد فشل الرهان عليه لأسباب واقعية وعقبات لا يمكن تجاوزها، فصناعة ديكتاتور عسكري يخلف القذافي مشروعا جهويا، نشأ في شرق ليبيا وليس له وجود مؤثر في الغرب الليبي، وهناك تعصب لدى القبائل الغربية ضد قبائل الشرق لدوافع تاريخية، ويكاد يكون من المستحيل بسبب الثقل السكاني والعسكري أن يحكم أهل الشرق أهل الغرب “الغرابوة”.

والأهم وهو ما لا يفهمه الفرنسيون وغيرهم أن الليبيين لن يسمحوا بإعادة حكم القذافي، ولن يقبلوا بأحد ضباطه ليعيد بناء الحكم الذي خرجوا عليه، وهم يرفضون فكرة الخضوع للهيمنة الخارجية وتعيين مجرم حرب تابع للغرب حاكما عليهم.

لكن جوهر الأزمة في طرابلس وغرب ليبيا أن الثوار يسيطرون على أرض الميدان بينما حكومة الوفاق بها اختراقات وخاضعة لنفوذ الأمم المتحدة والدول المحاربة لهم، وإذا لم يتم تصحيح الوضع في القيادة السياسية لتكون معبرة بشكل حقيقي عن مصالح الليبيين ستطول المعركة وستزيد التكلفة.

إن مشروع حفتر ضعيف وخاسر ولولا الدعم الخارجي لانتهى ومات، وإنما الذي يطيل عمره خلافات خصومه وترددهم ووثوق بعض الأطراف في الوعود الوهمية للمبعوثين والوسطاء الخارجيين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه