حزب المقاطعة يكتسح الانتخابات الجزائرية

رغم تشكيك الشّارع الجزائري في نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتي أعلنت وزارة الدّاخلية الجزائريّة أنها بلغت ـ36% من جملة الناخبين، إلّا أنّ النسبة تبقى ضعيفة وتشير إلى غلبة تيّار المقاطعة على الأحزاب مجتمعةً.

فهذه المقاطعة استبقتها مؤشرات أزعجت السياسيين في ذروة أيّام الحملة الانتخابية وجعلتهم يُدلون بتصريحات مُخجلة وصلت حدّ التّهديد على الملأ من عدم التّصويت. غير أن من الواضح أن الأغلبية لم تكترث بذلك وقد عبر عنها فيديو “ما نصوتيش” للشاب الجزائري “دي زاد جوكر”، بعنوان حصد أكثر من  ثلاثة ملايين مشاهدة قبل يوم الانتخاب. قالها هذا الفنان بلهجة محلّية، بمعنى لا أصوّت، فوافقه ثلُثا الشّعب الجزائري.

 لا تحتفظ ذاكرة المشاهد العربي البسيط بصورة ذهنية للشّباب الجزائري {مقارنة بباقي الشباب العربي} وإن حضرت فتأتي مُختصرة في صورة مُشجّع الكرة أو الشَاب المهاجر، وحتى إن حضرت أسماء أعلامها الحاليين شيبا و شبابا فلا تتجاوز بوتفليقة وأحلام مستغانمي والشّاب خالد والشيخ شمسو، على اختلاف مجالات شهرتهم.

وفي الحقيقة، قد يكون تعلّل العرب بعائق صعوبة اللّهجة لتبرير جهلهم بما يدور في هذا البلد الكبير عُذرا واهِيا، لكن وجب الاِعتراف أيضا أنّ الجزائريّين لم يسعوا للخروج من المحلّية. واِكتفوا بطموحات شهرتهم بين الجزائر و فرنسا.

تعرية ثقافة التهريج

 لا جدال في أنّ ثورات 2011 وهبت العرب نعمة حرية التعبير وعرّت بالتالي ثقافة التهريج والسّطحية التي تنافس عليها نجوم الكوميديا والفن أجيالا.  ففتحت أبواب الإبداع مُستغلّة طفرة الانفتاح والتفاعل في الفضاءات الإعلامية المفتوحة وفي عالم السوشيال ميديا لوجوه شبابيّة جديدة خفيفة الظّل مُلتزمة بالشّأن السّياسي والقضايا الرّاهنة تختصر جهودها في البحث والتوثيق في فيديوهات قصيرة بسيطة الإمكانيّات، عميقة المعنى، بلغة عامّية غالبا تستقطب الفئات الاجتماعيّة بأنواعها. 

  على عكس ما صدح به شباب البلدان الثائرة أو الحالمة بالثورة، لم يسمع العرب صوتا للشباب الجزائري الغاضب عن وضع بلده. فمرّت أوّل محطّة انتخابية برلمانية في 2012، ثمّ الرئاسية في 2014 بهدوء مُحكم وواصلت نفس الطبقة السّياسية الحكم وسط عزوف أكثر من نصف الناخبين عن التّصويت لدرجة أنّنا اعتقدنا أنّهم لا مُبالون أو ربّما راضون عن حكوماتهم ورئيسهم القابع في كرسيّه بلا كلام و العاجز حتى على وضع ورقة التصويت في الصندوق حين يُصوّت لحزبه أو لنفسه. وكادت الانتخابات البرلمانية الأخيرة أن تهنأ بحالة الهدوء ذاتها {رغم العزوف المعهود} لولا رسالتين لاثنين من الفنانين الشبان أبطلتا مفعول الحملات الانتخابية قبل أيام من التّصويت. الرّسالة الأولى كانت فيديو بعشر دقائق للفكاهي أنس تينا وفريقه بعنوان “الرسالة” يسخر فيه من البرلمان الجزائري ويفضح الرّياء الذي يعتمده السياسيون في العملية الانتخابيّة. أمّا الرسالة الثانية فكانت فيديو “بودكاست” من أربع دقائق للفنان شمسو دي زاد جوكر بعنوان “مانصوتيش”.

أرعب الحكومة

“مانصوتيش” أو لا أصوت، هكذا كتمها شمسو سنوات طويلة ونطقها في غمرة التّرويج السّياسي للأحزاب الحاكمة. أطلق الفيديو فأثلج الصّدور الغاضبة و حصد ثلاث ملايين مشاهدة في يومين. تفاعلٌ أرعب الحكومة فنطق وزيرها الأوّل عبدالملك سلّال  مُهدّدا الشعب بألا يتبعوا ما قاله هذا الحاسد المأجور، وندد وزير الشؤون الدينية بهذه الأصوات التي لا تريد بالجزائر خيرا.

لا يمكننا أن نُنكر أنّ مضمون “مانصوتيش” ردّده الكثيرون، شعراء و كُتّاب و مفكّرون و فنّانون ورسّامون، الخ كلّ بطريقته منذ عهود و مازالوا، لكن الحظّ الذي ساند هذا العمل و ساهم في انتشاره بهذه السّرعة يعود لأسباب ظاهرة أوّلها الاختصار و سلاسة اللّغة وشموليّة المعاني وحداثة الأسلوب. وبالطبع، التوقيت الاستراتيجي الذي أُطلق فيه هذا العمل والقلوب مشحونة بالغضب على تكرار الطّبقة السّياسية لأساليبها البائسة في إدارة العملية الانتخابية حتى بعد سقوط الأقنعة عن وجوه الفساد الكبرى.

 الفيديو ينطلق مُخاطبا الجزائر {في شخص الحكومة} بسؤال مُستفزّ وذكي جدا بعامية مفادها “لماذا تريدين أن تستمعي لصوتي فقط كلّما يقترب التّصويت؟ تريدين أن تستمعي لصوتي؟ و الله لن أصوّت، مانصوتيش…” ثمّ يتدرّج بذكاء واضح و قافية مدروسة وخفيفة على الأذن لذكر أسباب امتناعه عن التّصويت. يّذكّرها بأنها لا تُوفّر له ل الخدمات الصحية عندما يمرض، ثم يستدرك، آه لماذا المستشفى {السبيطار} وربّ الدّار حين يمرض يتوجّه إلى المطار؟؟

ولتقل عنه جاهلاً

 وبالأسلوب نفسه ينتقل إلى التذكير بأنه لن يصوّت ولتقل عنه الحكومة جاهلا، نعم جاهل، هي لم توفّر له تعليما محترما، مادامت تصرف المال على أبناء كبار البلد الذين يدرسون في الجامعات الأجنبية. يُذكُرها بإخفاقها في إدارة ملفات الصّحة و التعليم. يسرد على عجلٍ فساد النظام الضّريبي وسوء إدارة المنظومة القضائية والتمييز بين الأغنياء و فئات الشعب الفقيرة في المحاسبة القانونية، غلاء المعيشة، تهميش ذوي الاحتياجات الخاصّة، والتفريط في الطاقات الفنية و الرياضية، هجرة العقول… ويختم بأنّه في شخصه لا يريد أن يهاجر رغم أنّ معاملة الحكومة له توحي بأنها لا ترغب به على أرضها، ولا تخشى أن يفضح فسادها، فهو يتكلّم بالرّموز التي تصعب على فهم العرب. و لن يصوّت ويجب أن ينطق بكل ما ضاق به صدره كي يتمكّن من النّوم مرتاح الضّمير حتّى لو كان الثمن إلقاء القبض عليه. وفي قفلةٍ بعشر ثوانٍ معدوداتٍ يسأل من يشاهد الفيديو، إذا شاركه الموقف أن ينشره. وفعلا سرى المقطع سريان النار في الهشيم، وحصل من تبنّى “مانصوتيش” على أعلى نسبة في الانتخابات قيل إنها بلغت الثمانين في المئة لولا تعديلات القائمين على العمليّة الانتخابية.

مهما اختلفت النسبة المُصرّح بها لعدد المقاطعين، فإنّ الرسالة كانت مُربكة هذه المرّة والرّد عليها من طرف الحكومة الجزائرية كان دون مستوى وعي المُقاطعين بطبيعة التحوّلات الاقليمية والعالمية. حكومة مازالت تتّهم كل صوت معارض بالمأجور و المتآمر على استقرار البلد على أساس أن هذا البلد ينعم بالحرية والتداول السلمي للسلطة واستقلالية القرار والتنمية والعدل والشفافية.

جرائم في حق البلدان كنست بسببها بعض الشعوب  حاكميها ومازالت الحكومة الجزائرية تعامل شعبها بأساليب قمعٍ بدائية وتثبت بهذا أنّ الحكومات العربية لا تستحقّ صبر شعوبها عليها.  

  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه