حرب اللافتات السورية- التركية

المستثمرون العرب يرون أنهم المستهدفون، وذلك من أجل مصلحة المحال التجارية التركية التي يبدوا أنها لم تتمكن من جذب الزبائن وتحقيق أرباح مالية بسبب الوجود العربي.

لم يكن “فراس” يعلم أن بحثه عن اﻷمان  والاستقرار له وﻷسرته سيوقعه في مشاكل، ويدخله في نقاشات سياسية واجتماعية ﻻ يريدها وﻻ قبل له بها … كل ما أراده حينما قرر الرحيل بعائلته عن مدينة حلب التي أصابها وباء الحرب كباقي المدن السورية؛ أن يوفر لهم حياة كريمة وسط عالم أصبح المرء فيه يفتقد أبسط معاني الكرامة والإنسانية ؛ فراس مثله مثل كثير من السوريين الذين فروا بأنفسهم وعوائلهم من جحيم حرب ﻻ هوادة فيها … حرب عمياء ﻻ تفرق بين كبير وصغير أو بين مدني وعسكري .

الى تركيا

شد “فراس” الرحال إلى تركيا التي كانت خياره اﻷول  ، حيث أقرباء لهم فرقهم الاستعمار زمن تقسيم أملاك الدولة العثمانية، استمرت علاقتهم بهم في المناسبات واﻷعياد حينما كانت تفتح الحدود بين البلدين ويسمح لهم بالتزاور، مع معرفة قليلة باللغة التركية تسمح له ولعائلته بالتعامل مع الجيران الجدد . وبعد أن استقر به الحال قرر “فراس” فتح محل لبيع المأكولات السورية الشهيرة التي تتقن أمه وشقيقته وزوجته صنعها بمهارة ، خصوصا وأن هناك الآلاف من اللاجئين السوريين والعراقيين الشباب الذين يعيشون بمفردهم ويبحثون عن تلك المأكولات التي تعودوا عليها في أوطانهم ولا يجدونها في تركيا ، ولجلب الزبائن والترويج لبضاعته وضع فراس ﻻفتة كتبها باﻷحرف العربية معلنا عن منتجاته من فطائر وأجبان ومربات ومخللات ومخبوزات وغيرها من السلع الغذائية مثلما فعل الكثيرون ممن قرروا الاعتماد علي أنفسهم لإعادة التوازن المفقود في حياتهم عبر ترتيب أمور حياتهم اليومية وفق معطيات الحرب التي أجبرتهم علي ترك مدنهم ومنازلهم وأعمالهم والرحيل بحثا عن اﻷمان لهم وﻷسرهم.

وبدأ “فراس” يشعر بشيء من الأمان والاستقرار بعد أن تمكن من تأمين لقمة عيش لعائلته كبيرة العدد التي يرعاها دون أن يكون معتمدا علي ما تقدمه الحكومة التركية من معونات ؛ ودون أن يكون مضطرا ككثيرين للوقوف هو وأفراد عائلته في طابور طويل لاستلام حصة من المساعدات العينية والمالية التي تقدمها جمعيات ومؤسسات خيرية محلية أو عربية …لكن يبدو أن دوام الحال من المحال ؛ إذ يبدو أن الكتابة باﻷحرف العربية علي واجهات المحال التجارية وأبوابها أثار حنق واستياء السكان المحليين ، لتبدأ سلسلة من المشاكل بينهم وبين اللاجئين السوريين، والتي كان يتم احتواؤها في بداية اﻷمر بالطرق الودية والتعاملات الإنسانية ، وتقدير كل طرف من الطرفين لظروف اﻵخر ، إﻹ أن الأمور تطورت مؤخرا بصورة غير متوقعه بعدما ازداد عدد المحال التجارية التي يديرها اللاجئون العرب وازدادت معها حجم اللافتات المكتوبة بأحرف عربية ، إذ بدأت قوات اﻷمن في التدخل بناءً علي شكاوي قدمت لها من جانب عدد غير يسير من السكان المحليين الذين طالبوا بإزالة كافة اللافتات المكتوبة بغير الأحرف اللاتينية التي تكتب بها اللغة التركية.

ما حدث في “أضنة” حدث في “مرسين” وعدد من مدن جنوب وجنوب شرق تركيا؛ ولنفس السبب أصدرت بلدية الفاتح في إسطنبول نهاية العام الماضي مرسوما ملزما يطالب بإزالة كافة اللوحات التجارية والإعلانية المكتوبة باﻷحرف العربية، وهو القرار الذي مثل صدمة لآلاف المتاجر والمطاعم والشركات في الحي الذي يتركز فيه الوجود العربي بالمدينة ، والمعروف بأنه معقل الإسلاميين اﻷتراك .

العربية مستهدفة

ورغم أن القرار لم يخص الأحرف العربية وحدها بالذكر لكنه شمل أيضا حظر استخدام لغات أخرى مثل الروسية والصينية والفارسية ، إﻻ أن هناك العديد من المستثمرين العرب بالمنطقة يرون أنهم المستهدفون بمثل هكذا قرار ، وذلك من أجل مصلحة المحال التجارية التركية التي يبدوا أنها لم تتمكن من جذب الزبائن وتحقيق أرباح مالية من الوجود العربي الكثيف في الحي رغم أنها قامت بوضع ﻻفتات بالعربية هي اﻷخرى للإعلان عما تقدمه من خدمات ومنتجات ، معتبرين القرار يهدف إلي تدمير أعمالهم دون مراعاة أنهم يمارسون أعمالا مشروعة ويقومون بالتزاماتهم المالية تجاه الدولة التركية من فواتير وتأمينات وضرائب ، ويساهمون بأموالهم في عجلة الاقتصاد التركي .

فيما يري اﻷتراك أن تزايد الوجود العربي في مختلف المدن التركية عموما أدي إلى تراجع الطلب علي العمالة التركية التي تضررت ضررا كبيراً،  بعد أن فقد بعضهم عمله أو انخفض أجره بسبب رخص اﻷيدي العاملة الوافدة ، تلك الباحثة عن مصدر رزق بأي ثمن وفي أي مجال ، اﻷمر الذي ولد حالة من العداء والكراهية بين الطرفين .

المتفائلون من أصحاب المحال التجارية العرب يرون أن اﻷمور ستتحسن إلى اﻷفضل في ظل تواجد الرئيس رجب طيب أردوغان في السلطة ، مؤكدين أن مثل هذه القرارات سيتم التراجع عنها سريعا خصوصا وأنها تتعارض مع توجهات أردوغان شخصيا ؛ الذي أقر تعلم اللغة العربية في المدارس ، كما أمر بإضافتها إلى جوار اللغتين التركية والإنجليزية علي الإشارات المرورية العامة وأسماء الشوارع الرئيسية والميادين الهامة ، في خطوة هي الأولى منذ قيام الرئيس التركي مصطفي كمال أتاتورك بتغيير أحرف الكتابة التركية من العربية إلي اللاتينية منذ 88 عاما. 

الشعور بالغربة وعدم الارتياح التي برر بها اﻷتراك استياءهم وتضررهم وشكواهم من كثافة اللافتات المكتوبة باﻷحرف العربية ربما تلخص في عموميتها حالة الاغتراب النفسي والمعنوي التي وجد المواطن التركي نفسه يعيشها … بين حاضر يؤكد اقترانه بقطار الحضارة الغربية ونهج الدول الأوربية الذي يعيش علي أغلبه في الكثير من تفاصيل حياته اليومية ، وبين دعوات ونداءات تطالبه بإحياء الموروث الثقافي والاجتماعي للإمبراطورية العثمانية بصفته الابن الشرعي لهذه الإمبراطورية ، والذي يقع علي عاتقه مسئولية بعثها من جديد عبر الفخر والاعتزاز بتاريخها الذي صنعه أجداد له حكموا العالم ، وكانت لهم بصمة واضحة سياسيا وعسكرياً واقتصاديا وثقافيا سواء في الشرق أو الغرب .

الجانب الشكلي

المتغيرات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط ككل ، ونزوح الكثير من الجنسيات العربية إلى المدن التركية ، ورؤية الأحرف العربية علي اللافتات في الشوارع والميادين التي لم يعتد عليها اﻷتراك منذ إنهاء الخلافة العثمانية وإعلان الجمهورية التركية ، وتولي حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي الحكم منفردا على مدي خمسة عشر عاما ؛ والذي أخذ على عاتقه مهمة إعادة التواصل بين الجمهورية التركية وبين تاريخها الذي تم تجاهله بل ومحاولة طمس معالمه علي مدي أكثر من 88 عاما، بعد أن عمد مصطفي كمال أتاتورك إلى قطع علاقة تركيا والأتراك عموما بكل ماله علاقة بالدولة العثمانية ، كلها عوامل أكدت أن التغييرات التي عاشها اﻷتراك ، ومبادئ العلمانية التي تربوا عليها منذ إعلان الجمهورية التركية لم تكن أكثر من تقليد للجانب الشكلي لنظم الغرب وقوانينه ونسق حياة مواطنيه اليومية .

 وما نجاح حزب العدالة والتنمية ذي التوجه الإسلامي واستمراره في السلطة طوال هذه السنين ، وحصوله علي اﻷغلبية في كافة الاستحقاقات الانتخابية التي دخلها الا دليلا دامغا علي أن الإسلام هو العامل الأكثر تأثيرا في الحياة السياسية  والاجتماعية لدي اﻷتراك الذين يمثلون القاعدة الشعبية العريضة للدولة التركية التي باتت تفخر بماضيها وتسعى جاهدة لربطه بحاضرها علي أمل أن تعيش نفس نجاحات الدولة العثمانية مستقبلاً .

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه