حرب التأشيرات بين أنقرة وواشنطن

حرب التأشيرات تلك، وإدارتها وفق مبدأ “الند بالند” يبدو أنها القشة التى قصمت ظهر بعير العلاقات المتوترة أصلا بين أنقرة وواشنطن.

ازدادت خلال الأيام القليلة الماضية حدة حرب التأشيرات التى اندلعت بين أنقرة وواشنطن، إثر قيام الأولى بإلقاء القبض على أحد العاملين الأتراك بالقنصلية الأمريكية فى إسطنبول ويدعى متين توباز، واتهامه بعدة تهم خطيرة من بينها التجسس، ومحاولة قلب نظام الحكم، والارتباط بمنظمة فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، والذي تتهمه أنقرة بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت فى تموز/يوليو من العام الماضي.

تهم دون أساس

وفى رده على الانتقادات الحادة التى وجهتها واشنطن لعملية اعتقال موظفها، معتبرة أن التهم التى وجهت له لا أساس لها، قال وزير الخارجية التركى فى تصريحات له بثت عبر فضائية (فرانس 24)” الفرنسية أن هناك العديد من الأدلة الخطيرة ضد موظف القنصلية الأمريكية، موضحا أن ثبوت أي من التهم الموجهه له، فإن العمل هنا أو هناك (في إشارة للقنصلية الأمريكية) لا يعطى أحدا حصانة.

استدعاء المستشار فيليب كوسنت الرجل الثانى فى السفارة الأمريكية لمقر الخارجية التركية، لوجوده السفير خارج أنقرة ، وإبلاغه بتطلعات الأخيرة لتتراجع واشنطن عن قرارها الخاص بتعليق منح التأشيرات فى تركيا ، والذى سيتسبب فى أزمة كبيرة وتصعيد بين الطرفين لا لزوم له – وفق وجهة نظر تركيا ، يبدو أنه لم يلق آذانا صاغية لدى الإدارة الأمريكية التى هددت بأن التهم الموجهه لموظفها ستقوض علاقات الشراكة طويلة الأجل بين تركيا والولايات المتحدة الحليفتين فى الناتو ، مادفع أنقرة لاتخاذ خطوات جديدة باتجاه التصعيد ، إذ جرى التحقيق مع موظف تركى آخر يعمل لدى السفارة الأمريكية ، فيما أصدرت محكمة تركية الاثنين مذكرة اعتقال بحق موظف تركي ثالث ، لتورطة بعلاقات مع جماعة فتح الله غولن المحظورة ، وفق ماتناقلته وسائل إعلام تركية .

تصعيد الأزمة

 صحيفة “حرييت” التركية، كتبت أن مكتب المدعي العام أصدر قراراً باعتقال الموظف بعد معلومات جمعتها السلطات الأمنية تثبت تورطه وزوجته في التخطيط لمحاولة الانقلاب من خلال إيداع مبالغ مالية كبيرة في حساباتهما في أحد البنوك التابعة لجماعة غولن والذي سيطرت عليه السلطات الرسمية بعد محاولة الانقلاب مباشرة.

إلا أن السلطات التركية لم تتمكن من تنفيذ قرار الاعتقال بحق الموظف الذي لم يتم الإفصاح عن هويته حتى اللحظة، بسبب لجوئه لمقر السفارة الأمريكية للاحتماء بها، والتى تأويه وترفض مغادرته أو تسليمه للسلطات التركية.  

حرب التأشيرات تلك ، وإدارتها وفق مبدأ “الند بالند” يبدو أنها القشة التى قصمت ظهر بعير العلاقات المتوترة أصلا بين أنقرة وواشنطن ، والتى شهدت سلسلة من الخلافات السياسية الحادة خلال الفترة الماضية ، فى ملفات عدة ؛ أمنية وسياسية وعسكرية ، ويبدو أن معالجتها سوف تستغرق وقتا ربما يطول أمده ، إذ رأت صحيفة “واشنطن بوست” أن تعامل ” الواحدة بواحدة  ” الذى تمارسة الدولتان الحليفتان عسكريا وتجاريا واستخباراتيا فى الأزمة الحالية بين البلدين ، قوض على مايبدو ، تعهدات الرئيس دونالد ترمب بإصلاح العلاقات الأمريكية مع تركيا التى تدهورت بصورة كبيرة خلال إدارة سلفه باراك أوباما .

التعامل وفق مبدأ وحده بواحدة أو الند بالند الذى تمارسه أنقرة فى هذه الأزمة، لم يكن حتما وليد اللحظة، لكنه جاء فيما هو واضح نتيجة تراكمات لمواقف عده خذلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية حليفتها تركيا وقيادتها السياسية، سواء في فترة الرئيس السابق أوباما أو مع خلفه دونالد ترمب .

أزمة غولن

بدأتها واشنطن حينما رفضت تسليم أنقرة المعارض التركى فتح الله غولن المقيم فى ولاية بنسلفانيا أو طرده من أراضيها، والذي تتهمه السلطات التركية بالوقوف وراء محاولة الانقلاب العسكري الفاشل الذي وقع منتصف شهر  يوليو/تموز  من العام الماضي، وهو الموقف الذي آثار غضب القيادة السياسية التركية التى رأت أن حليفتها التقليدية خذلتها فى وقت كان من المفترض فيه أن تدعمها وتقف إلى جوارها.

الند بالند

وردا على هذا الموقف الأمريكى قامت أنقرة باعتقال القس الأمريكى أندرو برانسون المشرف على كنيسة في مدينة إزمير على ساحل بحر إيجه بتهمة القيام بإنشطة ضد الأمن القومي التركي، ثم أفرجت عنه بعد فترة قصيرة ، فى رسالة إلى الإدارة الأمريكية ، التى تجاهلت الأمر تماما، ليعاد اعتقاله مرة ثانية بتهمة الانتماء إلى منظمة فتح الله غولن. وفى هذه المرحلة جاء الطلب التركى صريحا وليس تلميحا ، إذ اقترح الرئيس التركى على الولايات المتحدة تسليم غولن مقابل الافراج عن القس الأمريكى غير أن واشنطن لم تبد أى تجاوب مع هذا الاقتراح ، وناشدت المسؤولين الأتراك بعدم الخلط بين قضيتى غولن وبرانسون .

تسليح الأكراد

أما الحلقة الثانية فى سلسلة الخلافات الأمريكية – التركية ، والتى تعد من أكثر الخلافات شدة، كونها ترتبط بملف يمثل حساسية قصوى لدى عموم الأتراك، هو الملف الكردى إذ وجدت أنقرة أن هناك مؤازرة وتأييد كاملين من جانب واشنطن تجاه قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الشعب الكردية التى تعتبرهما تركيا وحدات إرهابية، وتشير العديد من التقارير الاستخباراتية والعسكرية حصول تلك القوات على دعم عسكري ولوجستي من قبل البنتاغون، الذى صرح مصدر مسؤول به لـ” بى بى سى ” البريطانية أن ذلك التسليح يشمل أسلحة خفيفة وذخيرة وبنادق آلية وجرافات وآليات عسكرية ورشاشات خفيفة ، مشيرا إلى أنه سيتم سحب هذا السلاح عقب الانتهاء من تنظيم داعش فى سوريا ، وهو الأمر الذى لم يحدث .

ورغم إفصاح تركيا أكثر من مرة عن وجهة نظرها الخاصة بإن كل من قوات سوريا الديمقراطية ووحدات الحماية الشعبية فصائل إرهابية لهما صلة وثيقة بحزب العمال الكردستاني ، ولا بد من التصدي لهما ، معربة عن خشيتها من أن النجاحات التى تحرزها عناصر الأكراد المقاتلة على الساحة السورية فى المنطقة الحدودية مع تركيا ، من شأنه  تعزيز التطلعات الانفصالية لأكراد تركيا المتمركزين فى جنوب شرق البلاد ، إلا أن واشنطن لم تلتفت كثير لمخاوف حليفتها أنقرة ، وجاء الرد على تلك المخاوف من خلال التصريح الذى أدلى به دوغلاس أوليفانت المستشار السابق للرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذى أوضح فيه أن الأكراد السوريين ليسوا مدرجين على قوائم الإرهاب في أمريكا، وبالتالى فلا حرج في التعامل معهم ودعمهم خاصة أنه كان لهم دور كبير في القضاء على تنظيم الدولة ومحاصرته داخل الأراضى السورية .

ازدزاجية المعايير

الأمر الذى دفع وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إلى توجيه انتقادات حادة للولايات المتحدة ، واتهامها بازدواجية المعاييرِ، خصوصا بعد ظهور جنود أمريكيين بشارات وحدات الحماية الكردية خلال عمليات مشتركة في سوريا، وهو الأمر الذى كان بمثابة ناقوس الخطر لاحتمالية حدوث صدام أو على الأقل توتر في العلاقات بين الجانبين لاحقا لا سيما وأن واشنطن تنظر إلى المقاتلين الأكراد كونهم حلفاء لها في المنطقة يجب دعمهم عسكريا ولوجستيا والعمل على زيادة قوتهم ، وهى وجهة نظر تخالف تماما رؤية أنقرة لهم ، التى تعتبرهم تهديدا لأمنها القومى ووحدة أراضيها .

الدعم الأمريكى للأكراد لم يكن لأكراد سوريا وحدهم بطبيعة الحال، لكنه سبق وأن امتد إلى إقليم كردستان، إذ كشف بيان صادر عن وكالة التعاون الأمني التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) عن أكبر صفقة تسليح تقدمها أمريكا للقوات الكردية بالعراق، وذلك حين وافقت على بيع أسلحة ومعدات بقيمة 295.6 مليون دولار لوحدات البيشمركة الكردية التابعة لأقليم كردستان العراق.

البيان أشار إلى أن الصفقة تمت بناء على طلب من الحكومة العراقية  -قبل أزمة استفتاء الانفصال– بتسليح لوائي مشاة وكتيبتي مدفعية تابعين للوحدات القتالية التابعة لقوات البشمركة، موضحًا أن ذلك السلاح يشمل مدافع ومدرعات وأسلحة ثقيلة وخفيفة إضافة إلى بعض الملابس والأدوات العسكرية المستخدمة في القتال، وهو الأمر الذى آثار غضب أنقرة حينذاك فيما صرحت واشنطن بأنها تتفهم الغضب التركى وأنها ستوضح وجهة نظرها لحليفتها ، وستقدم لها الضمانات الكفيلة بطمأنتها ، إلا أن ذلك لم يحدث رغم اللقاء الذى جمع بين رئيسى أركان البلدين والذى لم يسفر عن أية تصريحات بهذا الخصوص، وقيام الكونغرس خلال نفس الفترة تقريبا برفض التصديق على صفقة أسلحة لقوات الحرس الرئاسى التركى وبعض الأسلحة الخفيفة التي طلبتها أنقرة.

ترتيب الأولويات

التحركات الأمريكية المتواصلة لدعم الأكراد عسكريا ولوجستيا سواء في العراق أو سوريا، وتجاهل مخاوف تركيا، دفع الأخيرة لإعادة ترتيب أولوياتها وتغيير بوصلة توجهاتها تجاه حليفتها القديمة وعضو الناتو معها؛ خصوصا وأن تلك التحركات كما تدرك الأدارة الأمريكية جيدا ستؤثر سلبًا على تركيا وستصب آجلا أم عاجلا باتجاه إحداث توترفى علاقات البلدين ” الحليفتين”، وهو مابدأ واضحا خلال زيارة الرئيس التركى الأخيرة لواشنطن، حيث وقعت أشتباكات عنيفة بين حرسه الخاص وعدد من معارضيه، وجهت على أثرها السلطات الأمريكية تهما رسمية إلى ثلاثة من مرافقي أردوغان بالإعتداء على محتجين في قلب العاصمة الأمريكية على هامش زيارتة للولايات المتحدة في مايو/أيار الماضي، وهو القرار الذي أثار غضب واستياء الرئيس التركي.

انفجار الموقف

كل تلك العوامل عجلت فيما هو واضح بانفجار الموقف، الذى جاء تحت عنوان حرب التأشيرات، نتيجة الاحتقان الذى تمر به العلاقات الثنائية بين البلدين، والذى يبدو أنه سيستمر لفترة، خصوصا وأن تلك المشكلة ستنعكس بصورة سلبية على قطاع الأعمال والعديد من القطاعات الخدمية الهامة كالسياحة والعلاج والتعليم والإعلام، كما ستطال أيضا تأشيرات الدبلوماسيين والمسؤولين في كلا البلدين، ما يعنى ارتفاع حدة التوتر ، فى ظل عدم قدرة أي منهما على احتواء الأزمة طالما ظلا يتعاملان بمنطق الند بالند .  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه