جمال عبد الستار يكتب: كن ذهبًا

لا تحزن على فوات بعض المنافع وضياع بعض المصالح، فغدًا تتذكر سيرتك الأجيال، وتهفوا إليك النفوس، وتتزين بك الدنيا، وتجتمع على محبتك القلوب.

د. جمال عبد الستار

ضرب الله مثلاً آخر للحق والباطل فقال سبحانه: “ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله”، وهنا يتحدث القرآن عن صناعة الحلي الجميلة والمعادن النفيسة والأحجار الكريمة، فهي بتمامها تُضرب مثلاً لصناعة الرجال ، وتكوين الرواد.

  تُضرب مثلاً لجلاء الحق ونصاعته، وزيف الباطل وفنائه، فإلحلي والمعادن لكي تصل إلى قمة جمالها، وعظيم نفعها لابد لها أن تمر بفرن التمحيص، لابد لها من نار التطهير والتخليص والتمييز، لابد أن يوقد عليها في النار لتعاني آلام التصفية وحرارة التمحيص، فهي بشوائبها رخيصة السعر، وضيعة المكانة،  قليلة النفع، أما بعد تصفيتها فنفعها يزيد، وسعرها يرتفع، ومكانتها ترتقي، ومقامها يسمو، وستُوضع يومها في مكانها الصحيح ،وسيعرف الجميع مقدارها، وسيُبهرون بجمالها، وسيُعجبون من نفاستها.

وهي في وقود المحنة تتلظى بلهيبها، وتتألم لفقد بعض أجزائها وتفتت بعض مكوناتها، والعجيب أن الشوائب التي كانت عالقة بها، أو منضوية داخل مكوناتها، تنفصل عنها لتكون طبقة طافية على السطح ، يتجمع عليها كل من على شاكلتها، فتنتفخ وتتورم ، حتى يظن الناس أن الركام هو الأصل، وأنه لم يعد هناك من ذهب ولا حلي ولا معدن، ولكن سرعان مايتماسك المعدن وتشتد قوته، ويصفو الحلي ويزداد بهاؤه، وسرعان مايتطاير الركام ويتناثر، سرعان ماتقذفه الحمم إلى جوانب الموقد، فيصير هباءً لاقيمة له، وجفاءً لاخير فيه .

فأما الزبد فقد بين القرآن مصيره، يذهب جفاء لا قرار له ولا مقام ولا مكان ، وأما خالص الذهب والمعادن فيعظم نفعه وترتقي مكانته ويبقى نافعاً للبشرية.

مهاوي الخزي

 لذا عليك أن تكون ذهبًا خالصًا وليس ركاماً زائفًا، وإلا فإن سنة الله لن تدعك مدسوسًا بين الحلي، ولكنها ستلقي بك في مهاوي الخزي، فالإسلام لن ينتصر بمدخول النية أو بطامح لمكانة، أو للاهث خلف لعاعة من لعاعات الدنيا ،ووجودك في منجم الذهب لن يجعلك ذهبا، ولن تتحلى بك الدنيا.

عليك أن تكون ذهبًا مدركا لقيمته، ليس مرتابًا في نفاسته، أو متشككًا في مكانته، فلا يليق بك أن تركن إلى الالتصاق بالركام،  أو تحرص على الاختلاط به، أو تحزن لانفصاله عنك.

عليك أن تكون ذهبًا مستشرفًا لمكانتك بين الأجيال، ومدركًا لعظيم نفعها بك، والإفادة منك، وعدم الاستغناء عنك، فلا تقيم نفسك في محنة الإحراق، ولكن قيم نفسك بعد انطفاء اللهب، وجلاء الحق ونصاعنه، وحاجة الناس اليك، وندرة وجودك بين الخلائق.

عليك أن تكون ذهبًا متيقنًا من أن محبتك في القلوب راسخة لاتحتاج إلى دعاية، ومكانتك بين الناس عالية لاتحتاج إلى ترويج، وحاجتهم إليك ربما أكثر من حاجتك اليهم، على عكس الزبد والركام فإنه لايعلو إلا بالتدليس، ولا ينتشر إلا في غيبة المعدن النفيس، ولايجتمع إلا مع كل ساقط رخيص.

لا تحزن
 لا تحزن على فوات بعض المنافع وضياع بعض المصالح، فغدًا تتذاكرسيرتك الأجيال، وتهفوا إليك النفوس، وتتزين بك الدنيا، وتجتمع على محبتك القلوب.

القضية أن تكون في نفسك على استحقاق للاستخدام، متأهلاً للاستعمال، متأهباً للميدان، مستشرفاً فتح المنان، ولا تُبالي بعدها إن التف حولك كل الناس، أو تفرق عنك أقرب الخلان.

_______________

*رئيس الجامعة العالمية للتجديد والأمين العام لرابطة علماء أهل السنة        

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه