جمال خاشقجي.. وفجر الخصومة

الكاتب والإعلامي السعودي الراحل جمال خاشقجي

 

لا يمكن البتة وصف الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي بأنه معارض راديكالي لنظام الحكم السعودي، فالرجل كان جزءا من النظام حتى وقت قريب جدا، وتحديدا حتى تبوأ الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد وبداية خطواته لتغيير معالم المملكة ونظامها الإجتماعي والديني تساوقا مع نصائح وترتيبات إقليمية ودولية اشترطت ذلك كعربون لدعمه وتثبيت حكمه، بل وتصعيده سريعا إلى موقع الرجل الأول في المملكة (الملك).

فارّ من مذبحة الريتز:

لم يكن خاشقجي من أتباع بن لادن، ولا ممن شاركوا في تفجير برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك، ولا من رجال قاعدة الجهاد في جزيرة العرب، لكنه كان ولا يزال كاتبا صحفيا ومثقفا يمتلك وجهة نظر خاصة في الأحداث تتفق أحيانا وتختلف أحيانا مع نظام الحكم في بلده، ورغم أنه فر من المملكة ناجيا بنفسه من مذبحة الريتز كارلتون الشهيرة، والتي شملت العديد من الشخصيات التي كان جمال يراها متطابقة مع طريقة تفكيره بمن في ذلك بعض أفراد الأسرة الحاكمة، ومعظم الدعاة المصنفين إصلاحيين، إلا أنه ظل حريصا على إبقاء خيوط الود مع النظام، ومع الأمير محمد، وظل يخاطبه باحترام رغم أنه لم يعد في قبضته، بل إنه كان يسدي النصح لمن يحتدون في معارضته .

إذن لماذا هذا الفيلم الهوليودي البوليسي لإختطاف الرجل وإخفائه، بينما كان ذاهبا بمنتهى حسن النية إلى قنصلية بلاده لإنجاز بعض المعاملات الإدارية دونما شكوك فيما ينتظره هناك؟!

بغض النظر عن التطورات المفاجئة التي قد تقع قبل أو بعد نشر هذا المقال، فإن المشهد الذي حدث مع خاشقجي هو جريمة كبرى، وقرصنة بشرية، وانتهاك لسيادة دولة كبرى، ورسالة إرهاب لكل المعارضين السياسيين ليس السعوديين فقط ولكن كل من ينتمي لدول الربيع العربي بل كل من تمتعض منه السعودية وحلفها الإقليمي، وفي القلب منه دولة الكيان الصهيوني.

ملاحقة من هم بالخارج:

من الواضح أن الأمير محمد بن سلمان الذي تصور أن الأمور دانت له، بعد أن تمكن من حبس كل معارضيه داخل المملكة يتحرك الآن لتنفيذ المرحلة الثانية وهي ملاحقة منتقديه خارج المملكة، معتمدا على خبرات لا باس بها لجهاز المخابرات السعودية وأجهزة المخابرات الصديقة في المنطقة في ملاحقة واختطاف المعارضين في الخارج، كما حدث من قبل مع العديد من الشخصيات المعارضة بل وعدد من الأمراء أبناء الاسرة الحاكمة مثل الأمير سلطان بن تركي، وسعود بن سيف النصر، وتركي بن بندر، وعبد العزيز بن فهد، ومن قبلهم المعارض ناصر السعيد الشمري الذي تم اختطافه وإخفاؤه للأبد من بيروت عام 1979.

لا جمال خاشقجي شخصية نكرة، ولا تركيا دولة مستباحة، لكن ما حدث استهدف نشر هذه الرسالة، حتى يعم الذعر بين كل المعارضين الذين يقيمون على الأرض التركية، والذين جاءوا من أرجاء العالم الإسلامي، وهذا ما يستدعي وقفة حازمة من الدولة التركية التي لاتقبل هكذا إهانة، والتي تعاملت بهدوء مع الأزمة بهدف فتح نوافذ أمام النظام السعودي للتراجع عن جريمته، لكنه نظام لا يفهم هذا الهدوء، ويعتبره ضعفا يغريه بارتكاب المزيد من الجرائم، كما أن المجتمع الدولي مطالب بوقف حازمة مع هذه القرصنة التي تعيدنا إلى العصور الوسطى، ولا تكفي تلك الإدانات الباهتة التي صدرت من الأمم المتحدة، أو الولايات المتحدة، بل ينبغي دعم الدولة التركية في استنقاذ معارض سياسي مسالم، حتى لو اقتضى الأمر منح تركيا غطاء أمميا لاقتحام القنصلية التي تتدثر بعباءة الحصانة الدبلوماسية حاليا لمنع دخول قوات الشرطة التركية إليها والتي اكتفت بنصب متاريس خارجية أمامها.

لم يتعلم النظام السعودي الدرس من جريمة اختطاف رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، والذي انتفضت لأجله فرنسا ودول أخرى حتى استخلصته من براثن آل سعود، ولم يستطع هذا النظام أن يواكب  العصر الحديث في التعامل مع المثقفين والمعارضين السياسيين والمصلحين الاجتماعيين والدعويين، بل هو حريص على ترسيخ سلوك عصابات المافيا، مستخدما إمكانياته المالية، وعلاقاته المشبوهة مع أجهزة المخابرات المعادية للعرب والمسلمين، وحين يرتكب النظام السعودي هذه الجرائم الفظيعة فإنه يغطي بها على ما يلحقه كل يوم من إهانات لا تتوقف من الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، الذي لم تكفه جملة المليارات التي حلبها من السعودية في “أول طلعة” له إلى الأراضي الحجازية في مايو 2017 (450 مليار دولار) فراح يطلب المزيد ثمنا لحماية النظام السعودي في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.

القوة الوهمية:

غرور النظام السعودي يشعره بقوة وهمية في مواجهة تركيا، وهو يلعب بورقتين أساسيتين أولاهما الاستثمارات السعودية الكبيرة في تركيا والتي يمكن أن تحدث خللا حال انسحابها، والثاني هو وجود العديد من الأتراك المعتقلين في السعودية بسبب تخلفهم بعد الحج، ولا يدرك النظام السعودي أن الأتراك يرددون مثلنا بل أكثر منا المثل”تموت الحرة ولا تأكل بثدييها” بل إن الأتراك يفوقون غيرهم في التعصب القومي الذي سيدفع الحكومة حتما لرد صعب إذا ظهر خاشقجي في الرياض بأي طريقة، وللتذكير فإن تركيا نجحت من قبل في كشف والرد على  جريمة قتل الناشطة السورية عروبة بركات وابنتها الصحفية حلا في سبتمبر 2017 حيث تمكنت سريعا من القبض على القاتل الذي اتضح أنه أحد أقارب الضحيتين، وقد حكم عليه القضاء التركي في إبريل الماضي بالمؤبد مرتين (30 +30 عام وفق القانون التركي الذي يمنع الإعدام)، وهي اليوم أمام تحد جديد للدفاع عن سيادتها وحماية ضيوفها.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه