ثمانية عشر يوما لم تكن كافية

إن الثورة المصرية لم تكتمل بمرور ثمانية عشر يوما تم إعلان التنحي فيها لرأس النظام ليبقي النظام بوجهه الكالح جاثما علي صدور العباد

ثمانية عشر يوما هي جملة الأيام التي قضاها ثوار مصر اعتبارا من الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011 حتى الحادي عشر من فبراير/شباط يوم التنحي الصوري لرأس النظام المصري حسني مبارك؛ والذي حصل علي البراءة كاملة من دماء الثورة والثوار مؤخرا ، ليلعب العسكر لعبتهم مع الشعب بدهاء مضحين بالرأس شكليا في سبيل بقاء الجسد الفاسد جاثما علي صدور المصريين ، ليتغول بعد ذلك وينبت بدلا من الرأس الغائب آلاف الرؤوس السامة التي تمتص كل يوم دماء المصريين الجافة في حالة من اللذة الطاغية بالتدهور الغير مسبوق في البلاد . 

ولا أستطيع أن أطلق علي أحداث تلك الفترة إلا أنها ثورة مكتملة الأركان وإن لم تؤت ثمارها الثورية المرجوة منها، وإن انخدع الشعب في قيادات المجلس العسكري الحاكم الفعلي للبلاد ، وإن استطاعت الأجهزة الأمنية أن تفرق بين الثوار وتشتت شملهم من ميادين مصر التي تحولت لاعتصامات جمعت كل فصائل الشعب المصري ربما للمرة الأولي في تاريخه بمطلب واحد وهو ” إسقاط النظام ” .

وقبل أن أخوض في أسباب الثورات داخليا وخارجيا وعوامل النجاح والفشل لها ، سأعرض مفهوم بعض المصطلحات كي تتضح الرؤى بشكل كلي بينما نستعرض الحالة المصرية كمثال في ضوء الربيع العربي الذي أراه رغم التآمر ما زال قائما وبقوة .

أولا : مفهوم الثورة لغة واصطلاحا

في قاموس المعجم الوسيط الثورة هي : انتفاضة وتمرد يطيح بحكم ما باستعمال القوة ويعوض الحكم القديم بحكم جديد وقد يقوم بتغيير النظام الاجتماعي برمته . وتشير الكلمة كذلك إلى تغير جذري وشامل على مستوى المجتمع كالثورة الصناعية مثلا .

والثّورة كمصطلحٍ سياسيّ تعني الخروج عن الوضع الرّاهن وتغييره ، باندفاعٍ يحرّكه عدم الرّضا، والتطلّع إلى الأفضل ، وعندما نتحدث عن ثورات الربيع العربي فإننا نعني التغيير الشامل والمتكامل وليس مجرد تحقيق بعض الرغبات أو المطالبات الثانوية التي تخص فئة واحدة أو أكثر من فئات المجتمع.

ثانيا : مفهوم النظام السياسي

أما النظام السياسي فقد اصطلح علي تعريفه بأنه مجموعة من المؤسسات السياسية الحكومية و غير الحكومية. أو كما يُعرِّفُهُ البعض: هو عبارة عن أحد أشكال السُلطة السياسية، و يتكون من عدة أجزاء (المؤسسات الرسمية و غير الرسمية) التي تترابط مع بعضها، و تتفاعل هذه المؤسسات مع البيئة (الداخلية و الخارجية ) بما يؤدى إلى بقاء النظام و استمراره ، وتلك المؤسسات هي السلطة التشريعية ، والسلطة التنفيذية ، والسلطة القضائية ، وأما المؤسسات غير الرسمية فيتبعها الإعلام علي سبيل المثال وهو كما يسمي السلطة الرابعة .

ومن هنا نتفق أن الشعوب العربية حين هتفت وما زالت حتى الآن ” الشعب يريد إسقاط النظام” كان المفهوم لدي الثائر البسيط أنه يطالب بإسقاط كافة المؤسسات المحركة والمهيمنة علي مفاصل الدولة بدءا من رأس النظام الحاكم مرورا بالحكومة والمؤسسات التشريعية والقضائية ورؤوس الإعلام وكبار موظفي الدولة المتورطين في حالة الفساد التي أدت لاشتعال الثورة في الأصل .

أسباب قيام الثورات

وغالبا ما تقوم الثورات لأسباب اقتصادية يقف المواطن الفقير فيها عاجزا عن تدبير احتياجاته اليومية نتيجة الفساد الشديد الذي يصنع فرقا هائلا بين الطبقات ، فتغيب العدالة غيابا مطلقا علاوة علي الضيق الأمني الذي يفوق احتمال الإنسان العادي فتصير ممارسات الشرطة عبئا علي كاهل الفرد بشكل يومي. أيضا انتشار الفساد من رشوة ومحسوبية ووساطة وبلطجة في المؤسسات الحكومية مما يهدد بالإيقاف التام لمظاهر الحياة فتتهدد مصالح الناس، كل ذلك علاوة علي فساد مؤسسة القضاء الذي يضيع حقوق الناس والكذب الإعلامي  المستفز محاولا تجميل وجه الأنظمة الفاسدة فيجد الشعب نفسه وقد استنفد كل محاولات الصبر والقدرة علي التحمل فيحدث الانفجار الذي يبدأ عادة غير منظم وبمطالب محدودة تنامي مع تباطؤ المؤسسات في تحقيق تلك المطالب ، ويرتفع سقفها حتي تطالب برحيل النظام الشمولي من جذوره .

الثورات المضادة كرد فعل تلقائي  

ولم نجد ثورة علي مستوي التاريخ والجغرافيا سلمت من التآمر من أولئك المنتفعين من وجود الأنظمة القمعية ، فنجد طبقة رجال الأعمال التي لا تثري إلا في ظل الأجواء الفاسدة  من رشوة وعمولات وعمالات وغيرها ، فهؤلاء ينفقون تلالا من الأموال للقضاء علي الثورة في مهدها، أو في أي مرحلة من مراحلها للحيلولة دون وصولها لأهدافها، أو الهدف الأول لها وهو العدالة الاجتماعية ، وتضييق الفرق بين الطبقات.  أيضا الأجهزة الأمنية من شرطة ورجال جيش ومخابرات وأمن دولة يكون تكسبهم الحقيقي ومصلحتهم الكبري في بقاء الأنظمة الشمولية والحكام المستبدين. تلك الطبقة تمثل عامل هدم كبير لفكرة الثورة الشعبية ، فنجدها بعد فترات كمون ظاهرية تتفادي الغضبة الثورية الأولي ، لتنقض بعد ذلك بشراسة علي القوي الثورية واحدة تلو الأخرى محاولة توجيه ضربات في مقتل للقضاء علي ما تبقي من أمل أو ما قد يتبقي من فكرة الثورة في النفوس ، وغالبا ما تكون الضربات شرسة وموجعة حتي تقلم يد الثوار وتشل أي محاولة لإحياء الثورة من جديد.

وبتطبيق ذلك علي الحالة الثورية في مصر خاصة والربيع العربي بصفة عامة ، فإننا نجد أن الثورة المضادة استخدمت المال لتشكيل حركات التمرد بشكل أولي ، ثم الضربات المنية المتمثلة في قتل المتظاهرين السلميين وفض الاعتصامات بقوة الجيوش ، وهدم المنازل والاعتقالات والاختطاف القسري بل وقد يمتد الأمر لإعلان حالة الحرب العالمية علي الثوار كما يحدث في سوريا وليبيا واليمن ، واليوم سيناء بمصر ، في الوقت الذي تعمل تلك الأجهزة علي بث روح الفرقة بين أصحاب الفكرة الواحدة بالتخوين تارة وبث نعرة الخلاف الفكري تارة أخري ، وبث روح التعصب لتنظيم أو حزب أو حركة أو مجموعة ، فترتقي الأرواح بغير ثمن كل علي حدة ويكون المستفيد الوحيد مما يحدث هو المستبد الذي يقتات علي دماء الجميع .

خطوات لا بد منها لإنجاح الثورة

تولد الثورات بدعوات متفرقة ليس لها صاحب معروف ، لكنها شرارة تنطلق في أماكن متعددة من القطر الواحد ، ثم سرعان ما يشتد عودها بانضمام فئات مختلفة من الشعب ليمثل ذلك الانضمام الضربة الأولي للنظام والتي تفقده صوابه فيتحرك مهددا ومتوعدا وموجها ضربات موجعة تؤدي إلي احدي نتيجتين لا ثالث لهما :

الأول : هو تفرق الثوار وإحجام الآخرين عن الانضمام خوفا من البطش وهنا تكون النتيجة الحتمية موت الثورة في مهدها ، وتعتمد علي قوة البطشة الأمنية وسرعتها ، وقوة الثوار في ذات  الوقت.

الثانية : هو تأخر النظام في اتخاذ ردود أفعال تتناسب مع غضب الثوار سواء إجراءات إصلاحية أو إجراءات أمنية فينكسر حاجز الخوف لدي آخرين فيقوموا بالانضمام للثورة بدورهم مما يفقد النظام نقطة أخري فيضطر للانبطاح بتقديم بعض التنازلات ، أو وقف نزيف الخسارة بالنسبة له في نفس الوقت الذي يتهيأ فيه لجولة أخري من الصراع بينه وبين فكرة الثورة في حد ذاتها.

ومن هذا السيناريو المتكرر في معظم الثورات نستطيع أن نخرج ببعض التوجيهات لثورات الربيع العربي التي مرت موجتها الأولي بشلال من الدماء دفعته الشعوب العربية من خيرة أبنائها وزهرة شبابها في سبيل الإبقاء علي تلك الطغمة الحاكمة الحارسة لمصالح الغرب ومآربها الشخصية:

أولا : إن الثورة تموت إذا انتظرت دعما خارجيا ، فالعالم المسمي بـ”المتحضر” لا يمنح الحريات لتلك الشعوب البائسة التي لا تخرج لتنتزع حريتها بدمائها ولنا في فترات الاستعمار دروس ومواقف ، إنما العالم يقف دائما من الثورات  الداخلية ضد الأنظمة موقف المتفرج ليري لمن ترجح كفة النصر ثم يقدم تأييده ودعمه محاولا بذلك الحفاظ علي مصالحه هو قدر الإمكان ، وليس الحفاظ على حق الشعوب كما قد يري البعض أو ينخدع.

ثانيا : عدم ترك الميادين بسبب تهديدات أو وعود كاذبة خاصة من الأجهزة الأمنية التي تضحي عادة ببعض الرؤوس في سبيل الحفاظ علي وجودها هي ، فإذا انفض المشهد الثوري سرعان ما تنقض بشراسة علي كل من سولت له نفسه مجرد التفكير في الخروج والاعتراض ، هنا تبدأ كل الأجهزة المخابراتية في تفريق كلمة الثوار ، وتفريق شملهم ، وشغلهم بتقسيم كعكة هي في الأصل ليست لهم ، فيفرغون لتمزيق بعضهم البعض بينما الطرف الآخر منشغلا بالقصاص من الجميع علي حدة . . لا يجب ترك الميادين حتي تتم محاكمات ثورية شاملة تحت سمع العالم وبصره لكل فاسد وكل قاتل وكل خائن وكل من ثبتت عليه جريمة إفساد الأمة.

ثالثا: الإعلام ، فيجب علي الثوار أن يمتلكوا مؤسساتهم الإعلامية الخاصة وذلك بسرعة إنشاء محطات إذاعية تستخدم فيها أحدث التقنيات ووسائل الاتصال ، كذلك يجب أن يكون لهم صوت يعبر عنهم للتعامل مع وسائل الإعلام العالمية لتشكيل قوة ضغط شعوبية علي النظام الداخلي والأنظمة الخارجية التي تقوي شوكة الأنظمة الشمولية الحاكمة ، وبذلك يفوتوا عليه فرصة ذبح الثوار في الظلام دون أن يشعر بهم أحد أو أن يظلوا نهبة للإعلام الرسمي والذي يحرص منذ اللحظة الأولي علي تشويه الثوار وخلع صفات العمالة والإرهاب عليهم. 

رابعا  : الحق لا بد له من قوة تحميه ، إن الثورات التي تركت بغير قوة مادية تضمن الحد الأدنى من الحماية للثوار في الميادين العامة ضد آلة القمع الأمني من جيش وشرطة وأموال طائلة تنفق بغير حساب في معركة يعتبرها كلا الطرفين معركة تحديد مصير، لهي ثورة معرضة للذبح والانتقام والتقتيل في الطرقات ، ولن ترحمها آلة البطش تحت دعاوي حفظ الأمن وإعادة النظام والقصاص من الفوضويين ، ولنا في التاريخ عبرة وعظة.

ولا أقصد هنا التسلح أو الدعوة إلي الحرب الأهلية كما قد يروج البعض ، وإنما سلمية الثورة لن تستمر حتي تحميها قوة تكون حريصة علي سلامة الثوار لضمان استمرارهم بالصمود حتي تحقيق المطالب كاملة وتضمن كذلك تنفيذ الأحكام الثورية الصادرة.  

وفي مصر نظم الشعب بنفسه لجانا شعبية لحماية امن الأحياء والقرى والشوارع ونجح في ذلك بأقل الإمكانات، ولولا انفضاض الثوار من الميادين وتصديقهم لعبة العسكر لكان لهذه الثورة شأن آخر ، فالتجربة إذن كانت موجودة بالفعل ونجحت بشكل كبير جدا وبدون تسلح يذكر إلا من العصي والحجارة في رد جيش البلطجية المعد علي يد الشرطة لتخريب البلاد وإدخالها في حالة فوضي عارمة خاصة بعد الانسحاب الأمني المفتعل ، فالثورة ليس طريقها الحرب الأهلية وتناحر الشعب داخليا ، وإنما طريقها الدفاع عن نفسها في مواجهة كافة التهديدات الأمنية لصالح الشعب وحماية له من انتقام النظام .

إن الثورة لم تكتمل بمرور ثمانية عشر يوما تم إعلان التنحي فيها لرأس النظام ليبقي النظام بوجهه الكالح جاثما علي صدور العباد ، وإنما كانت مجرد موجة تدريبية أتوقع وقريبا جدا أن تتبعها  الموجة الثانية مع الأخذ في الاعتبار الخبرة التي اكتسبها الثوار نتيجة الأخطاء التي وقعوا فيها ، وحين يجتمعوا مرة أخري فلن تستطيع قوة في الأرض مهما بلغت أن توقف مدهم.

 ثمانية عشر يوما ليست كافية لإسقاط نظام متجذر في الإجرام والفساد كما بدي لنا عبر تلك السنوات المعدودة الماضية ، وإنما هي بداية النهاية لتلك الأنظمة ليسود العدل تلك البلاد من جديد إن استطاع الأحرار في تلك البلاد إدارة المشهد الثوري بما يتلاءم وحجم التحديات القائمة .

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه