تعديل الدستور في الجزائر

وفي كل مناسبة أو استحقاق سياسي يحيى الموضوع من جديد فيستنفر وزراءه، وحلفاءه فتكثر الجعجعة، ويتداعى “الطبالون” و”المتسلقون” على قصعة “التعديل” ثم لا يجدون طحينا ولا طعاماً.

نصرالدين قاسم*

مذ تمكينه من رئاسة الجمهورية في الجزائر، عام ألف وتسعمئة وتسعين، والرئيس عبدالعزيز بوتفليقة يلوح بتعديل الدستور تعديلا جوهريا يقضي على التشوهات التي طبعت نظام الحكم في الجزائر.

وفي كل مناسبة أو استحقاق سياسي يحيي الموضوع من جديد فيستنفر وزراءه، وحلفاءه فتكثر الجعجعة، ويتداعى “الطبالون” و”المتسلقون” على قصعة “التعديل” ثم لا يجدون طحينا ولا طعاماً.

ورغم أن الدستور هو آخر ما يمكن أن تعيه السلطات في الجزائر، أو تعيره اهتماما يذكر في قراراتها المصيرية، فإنه ظل شُغْلَ الطبقة السياسية الشاغل، وكأن خلاص العباد والبلاد يكمن في هذا التعديل.

لقد أثبتت التجارب والأحداث أن السلطة في الجزائر لا تتوانى في تجاوز الدستور والعبث بكل قوانين الجمهورية كلما وقفت حجر عثرة في طريقها أو حاجزاً أمام قرارتها، فدستور عام ألف وتسعمائة وثلاثة وستين (دستور المرحوم بن بلة) لم يمنع وزير الدفاع آنذاك المرحوم هواري بومدين من تدبير انقلاب عسكري ضد الرئيس المرحوم أحمد بن بلة.

ودستور عام ألف وتسعمائة وتسعة وثمانين (دستور المرحوم  الشاذلي بن جديد) الأكثر ديمقراطية في تاريخ البلاد المعاصر، لم يمنع ما يسمون بالـ “جانفيين”، – نسبة إلى انقلاب جانفي سنة ألف وتسعمائة واثنتين وتسعين – من وقف المسار الديمقراطي ومصادرة الإرادة الشعبية بإلغاء الانتخابات التشريعية وإعلان الفراغ الدستوري للانفراد بالسلطة وفرض الترتيبات التي تمكنهم من حكم البلاد بقبضة من حديد.

ودستور عام ألف وتسعمائة وستة وتسعين (دستور اليامين زروال) الذي حدد الفترة الرئاسية بعهدة واحدة قابلة للتجديد مرة واحدة، لم يمنع الرئيس بوتفليقة من تعديل هذه المادة فقط، ليتمكن من الخلود في الحكم فترشح لمدة ثانية وثالثة ورابعة، ولا شيء يدفع إلى الاعتقاد بأنه لن يترشح لمدة خامسة إذا أطال الله في عمره.

ففي كل مرة يعود اللغط والجدل والدجل حول الموضوع، ويصرح شهود “الزور” دون حياء بأن تعديل الدستور سيتم قريبا، هذه العبارة ما انفك يكررها رئيس الحكومة في أكثر من مناسبة طيلة السنوات الأخيرة، وكذلك الأمر بالنسبة لأمين عام حزب جبهة التحرير الوطني وغيرهما من الأحزاب الداعمة للرئيس، دون أن يحدث ذلك، ودون أن يشعر أي منهم بأي حرج في الإدلاء بتصريحات أثبتت الأيام أكثر من مرة أنها كانت كاذبة.

لقد تحول الحديث عن التعديل الدستوري إلى ملهاة أكدت للجزائريين أن الحكومة ومسؤولي الأحزاب الداعمة للرئيس، وحتى أحزاب المعارضة لا يعلمون شيئا عن الموضوع، ولا تأثير لهم فيه وإن استشيروا حوله.

وكشفت – أي الملهاة – مدى بؤس ومأساة السياسيين في الجزائر الذين يخوضون فيما لا يعلمون ولا يستحون، دون أدنى احترام لمناصبهم والمسؤوليات التي من المفروض أنهم يتحملونها …فالقضية يبدو أنها تناقش في دوائر أخرى تتحكم فيها إرادات أخرى وتتجاذبها إرادات أخرى.

بوتفليقة كان عدل الدستور الحالي تعديلا طفيفا في مناسبتين الأولى عندما استنكف عن قراره بعدم دسترة الأمازيغية، فدسترها بترسيمها لغة وطنية دون استفتاء عام ألفين واثنين ، وعندما عدل المادة الرابعة والسبعين ليتسنى له الترشح لعهدة ثالثة والخلود في الحكم عام ألفين وثمانية.. غير أن التعديل الذي ينشده منذ أكثر من خمس عشْرَةَ سنة يريد به تغيير وجه النظام وجوهره، إذ لم يخف الرئيس عدم رضاه عن الدستور وعبر عن رغبته في إرساء نظام حكم رئاسي واضح يقضي على التشوه الحاصل في النظام الذي وصفه بالخليط لا هو بالنظام الرئاسي ولا هو بالنظام البرلماني، خليط من هذا وذاك.

طبيعة هذه التغييرات هي التي عطلت مسار التعديل الـ “بوتفليقي” إذا يكاد يجمع الملاحظون أن الرئيس يواجه مقاومة خفية في سرايا الحكم تقف دون تجسيد رغبته “الدستورية”، أو “توازنات” كما وصفها أمين عام حزب جبهة التحرير السابق عبدالعزيز بلخادم تحول دون ذلك.. فالرئيس يحاول في كل مرة بعث المشروع من جديد مباشرة، أو عن طريق وكلائه السياسيين سواء من الحكومة أو من الأحزاب الموالية له لتحريك السواكن، وخلخلة الوضع لعله يجد سبيلا إلى مبتغاه، لكن يبدو أن الأمر مستعص بالصيغة التي يريدها، وإن كانت توافقية كما ذهب إليه من خلال فتح مشاورات مع الطبقة السياسية قاطعتها أغلبية أحزاب المعارضة الفاعلة والشخصيات الوطنية .

حقيقة أن مناقري الرئيس من ذوي السطوة على الحكم في البلاد، لا يعيقهم الدستور ولا قوانين الجمهورية في شيء إن هم “دبروا أمرا”، لكنهم أشد حرصا على الاحتفاظ بـ”منافذ” تبقيهم قريبين من “العرين” تمكنهم من مراقبة الوضع عن كثب، و”ثغرات” يلجون منها ليظلوا حافين حول “العرش”، ليسهل عليهم تنفيذ قراراتهم وتبرير تحركاتهم. وهذا ما يبدو أن بوتفليقة يسعى إلى حرمانهم منه، وتحييدهم عن طريق تعديل دستوري يكرس التوجه إلى دولة مدنية تكون فيه الجمهورية فوق كل المؤسسات.. وهنا مربط الفرس، وعقدة التعديل الدستوري في الجزائر.. وتفسير غياب “الطحين” رغم ما يصل مسامع الجزائريين من “جعجعة”  منذ أكثر من خمسَ عَشْرَةَ سنة

_______________

*كاتب جزائري 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه