تعثر قطار الزواج قنبلة مجتمعية تحتاج إلى حل

عدم قدرة الشباب على الزواج من الظواهر الاجتماعية السلبية التي بدأت تطفو على السطح في السنوات الأخيرة، وترتب عليها زيادة نسبة العنوسة والعزوبية في مجتمعاتنا.

عامر عبد المنعم*
عدم قدرة الشباب على الزواج  من الظواهر الاجتماعية السلبية التي بدأت تطفو على السطح في السنوات الأخيرة، وترتب عليها زيادة نسبة العنوسة والعزوبية في مجتمعاتنا، وهذا سيؤدي بالتبعية إلى أزمة مجتمعية ومأساة يترتب عليها آثاراً يصعب حلها بسهولة في المدى المنظور.

الزواج وبناء الأسرة حق إنساني، أكدته الأديان والشرائع، حيث تعتبر الأسرة هي نواة المجتمع، ولا يمكن بناء مجتمع سليم بدون نواة سليمة، ولهذا لم يكن في السابق مشكلة في إتاحة هذا الحق، وتيسير كل السبل لفتح الأبواب أمام الشباب حفاظا على تماسك المجتمع حفاظا على حاضر الدول ومستقبلها.

للأسف لا تحظى هذه المأساة الإنسانية بالاهتمام الكافي وسط الصراع السياسي المحتدم، والأزمات الاقتصادية المعقدة والتخدير الذي يمارسه الإعلام بإشغال المجتمع بقضايا التسلية، وغسل العقول والاستغراق في قضايا هامشية والابتعاد عن مناقشة القضايا الجادة والمحورية والبحث عن حلول حقيقية لما تمر به المجتمعات.

لقد حض الإسلام على الزواج واعتبره نصف الدين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم “إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي”، وفي رواية أخرى وصف الزواج بأنه نصف الإيمان ” من تزوج فقد استكمل نصف الإيمان” وهذا تقديسا للزواج لأهميته في تشييد المجتمع على أساس سليم.

أرقام صادمة
درست هذه الظاهرة في عام 2000 وكانت الأرقام صادمة، يومها كشفت دراسات مهتمة بالموضوع بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن أن الفتيات اللاتي تجاوزن الثلاثين بدون زواج بلغ عددهن 3.7 مليون فتاة، وبالتأكيد هذا الرقم حينها كان كبيرا لكن مع عدم وجود أي تحسن أو تغيير في ذات الأسباب التي أدت لتعثر الزواج بل وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية فان هذا الرقم تضاعف أكثر من مرة.

معظم الدراسات تركز على العنوسة ولا تهتم كثيرا بالعزوبية، رغم أن المعاناة لا تقتصر على الفتيات وإنما تمتد إلى الشباب أيضا الذي أغلقت في وجهه كل الأبواب، ولا يبدو في المدى المنظور أن الفرصة متاحة قبل دخوله هو الآخر في مرحلة عمرية يفقد فيها الرغبة في الزواج.

تشير الدراسات إلى أن أعلى  نسبة للعنوسة والعزوبية في العاصمة القاهرة، وتقل نسبيا في المدن، في حين تشير الدراسات إلى أن الزواج في الريف لم يتوقف وإن كان بوتيرة أقل مما سبق لطبيعة الحياة البسيطة، وانخفاض تكاليف الزواج والتماسك العائلي والقبلي واستيعاب الأسر لأبنائها.

وبرصد مؤشر الزواج نستطيع أن نقول أن جيلين من شبابنا ضحية توقف قطار الزواج، ومن المتوقع حسب ماهو معلن أن جيلين آخرين مطلوب أن يضحوا هم أيضا، بزعم الصبر من أجل الخروج من عنق الزجاجة التي يبدو أننا علقنا به، ولا توجد أي مؤشرات على أننا سنخرج، بل ما نراه أننا سنسقط في هوة سحيقة بعد أن تخلت الدولة عن مسئوليتها وباعت مقدراتها، وغابت الأولويات في كل خطط التنمية التي تؤدي على إهدار الإنسان وطموحاته.

تغييب دور الدولة
السبب الرئيسي في شيوع ظاهرة العنوسة والعزوبية هو تغييب دور الدولة في عملية التنمية في معظم بلادنا، وتفكيك قبضتها الاقتصادية، والذي تم بشكل منظم وممنهج تحت اسم الخصخصة، فباعت الدولة مقدراتها وممتلكاتها إلى حفنة من رجال الأعمال من أهل الحظوة والمستثمرين الأجانب أو وكلاء الشركات الأجنبية، فعندما تم طرح ممتلكات الدولة للبيع مرة واحدة لم تكن هناك رأسمالية وطنية، كما أن من قاموا بعملية الخصخصة وزعوا ما تم بيعه على شبكة من الوكلاء الذين تم اختيارهم سلفا لأسباب أخرى متعلقة بفكرة إحكام سيطرة الخارج على مقدراتنا.

لقد تم استنساخ النموذج الرأسمالي الغربي الأكثر بشاعة، وغير الملائم لمجتمعاتنا (في أكثر من دولة عربية)  وهو سيطرة نسبة الـ 1% على 90% من ثروة البلد فخسرنا الدولة التي كانت تملك الثروة، وتملك المصانع ووسائل الإنتاج، وتوظف الشباب وتبني المساكن وتوفر كل مقومات المجتمع لمنع البطالة، وتيسر على كل شاب أن يحصل على حقه في بناء أسرته بشكل طبيعي.

تم نقل ملكية الثروة من الدولة إلى شبكات من المغامرين المرتبطين بدوائر خارجية، وتحولت الدولة من مالك إلى متسول، وشيئا فشئيا فقدت القدرة على الفعل وعجزت عن جمع الضرائب من الأثرياء الجدد، وأجبرت مكرهة على تغيير القوانين لخدمة من سلبوها ممتلكاتها، بل ومع الوقت تحول هؤلاء الأثرياء المصنوعين إلى الحكام الحقيقيين، وهيمنوا على السياسة، وسيطروا على الأحزاب وأداروا السياسيين وامتلكوا الإعلام، فأصبحت الدولة خارج الفعل السياسي، وضاع الاقتصاد وضاعت السلطة المركزية وضاع المجتمع وضاع المواطن.

الواقع اليوم يؤكد أن الدولة لم تعد قادرة على استعادة دورها تجاه المواطن والمجتمع، حتى لو أرادت، ولم يعد لها دور غير الرضوخ للشبكات الجديدة التي لم تقنع بما استولت عليه، وتطمع في المزيد، وترك المواطن ليواجه مستقبله بنفسه في غابة أكثر قسوة أمنيته أن يفلت منها بحياته وليس فقط العيش بكرامة وإشباع حاجاته الأساسية وحقه في أن يكون إنسان.

هناك مبادرات مجتمعية لمواجهة هذه المأساة الاجتماعية، تظهر بشكل أوضح خارج المدن، لكنها تظل غير كافية وتأثيرها محدود، فالمشكلة معقدة، وما وصلنا إليه نتيجة عمل مدروس منذ عقود لإضعاف بلادنا وإفساد مجتمعاتنا، وتهيئة الأجواء للانحلال والابتعاد عن عوامل قوتنا وتماسكنا.

لمواجهة هذه المأساة الاجتماعية ينبغي استعادة دور الدولة في تحمل مسئوليتها تجاه مواطنيها، وهذا لن يكون إلا بالإصلاح السياسي الحقيقي ووجود حكومات تمثل الإرادة الشعبية، تقوم برسالتها وسط رقابة صارمة وتوجيه لتحقيق مصلحة المواطن والمجتمع، وليس حكومات تمثل مصالح الشركات متعددة الجنسيات والمستثمرين الجشعين الذين لا يبحثون إلا عن تكديس الثروة وتحويل الأرباح للخارج.

مطلوب خطط تنمية حقيقية تقوم على الدور المحوري للدولة في التخطيط وإدارة الاقتصاد، وعدم الهروب والتخلي، فلا مستقبل لاقتصاد يعتمد بشكل محوري على الاستثمار الأجنبي، ولن يحل القطاع الخاص مكان الدولة في تحمل مسئولية بناء المجتمعات، وتحقيق تماسكها وتلبية احتياجات المواطنين في العيش الكريم.

آن لنا أن نبتعد عن وصفات المؤسسات الدولية التي ساهمت في نقل ملكية ثروات الشعوب إلى دوائر ضيقة من المستفيدين، وعلينا أن نعمل على تنمية خاصة بنا مرتبطة بحضارتنا ومعتقداتنا، هدفها خدمة الإنسان، وليس سحق الشعوب وإفقارها من أجل رفاهية نخبة مرتبطة بمن أوجدوها وأعطوها كل شيء، ولن تنجح التنمية بدون تحقيق العدالة الغائبة

_______________

*كاتب صحفي مصري

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه