تركيا بعد عامين من الانقلاب الفاشل؟

هي واحدة من أطول وأهم الليالي التي مرت في تاريخ الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام ١٩٢٣ بل هي الليلة الفاصلة ما بين تركيا القديمة والجديدة، فلم يكن يدور بخلد العسكريين الذين دبروا وقادوا محاولة الانقلاب، وهم يحركون الآليات العسكرية والطائرات المقاتلة ليلة ١٥ يوليو/تموز قبل عامين، أن الشعب سيتحرك للتصدي لهم ويجبرهم على الاستسلام، في مشهد لن يمحى من الذاكرة الوطنية للشعب التركي، الذي أيقن صبيحة اليوم التالي والجنود يستسلمون له على جسر البسفور في إسطنبول، أن الانقلابات العسكرية ليست حتمية تاريخية، إذا ما قررها العسكريون فلابد وأن تقع، وأن ما روجته الروافع المدنية للانقلابات العسكرية من أن تركيا على موعد على انقلاب كل عشر سنوات، وأنه إذا ما تحركت المجنزرات فلن يتمكن أحد من إيقافها، كلها مجرد أباطيل يمكن محوها إذا ما قرر الشعب المواجهة والتغيير.

عامان مضيا على إفشال أكثر الانقلابات العسكرية في تاريخ تركيا المعاصر وحشية ودموية، حملا في طياتهما الكثير من التغييرات التي لم يكن من الممكن حدوثها لولا فشل الانقلاب.

أردوغان يعزز مكانته قائدا للجمهورية الثانية

يمكن القول إن كلمة السر في إفشال محاولة الانقلاب هي نجاة الرئيس رجب طيب أردوغان من القتل أو الأسر وقيادته المقاومة بنفسه، وإصراره على الذهاب إلى إسطنبول للتواجد بين الجماهير.

كانت الساعات التي فصلت ما بين تحرك الدبابات والآليات العسكرية، وبين ظهور أردوغان عبر تطبيق الفيس تايم على شاشة قناة سي إن إن التركية مع المذيعة هنده فرات، لحظات مليئة بالترقب والتحفز، فرغم الدور المهم الذي لعبه رئيس الوزراء حينها بن علي يلدريم بتأكيده عبر مجموعة من التغريدات على أن التحركات العسكرية لا تعدو كونها تمردا، وأنها تدور بمعزل عن رئاسة الأركان، ورغم الدور الذي لعبته بعض منظمات المجتمع المدني في توجيه الجماهير عبر الرسائل التليفونية للخروج إلى الشوارع لمواجهة الانقلاب، إلا أن الشعب التركي ظل مترقبا لمعرفة مصير أردوغان، وفور ظهوره وتوجيهه الشعب بمواجهة الانقلاب، اندفعت الجماهير إلى الميادين والشوارع لتجبر الدبابات والآليات على الانسحاب.

إن أردوغان الذي عرف بقوة وصلابة شخصيته، لعب دورا فعالا تلك الليلة في قيادة الجماهير نحو إفشال الانقلاب وعدم تمريره، فبدا واثقاً لم يهتز وهو يأمر الجماهير بالتصدي لتلك المجموعات مؤكدا لهم أنه سيكون على موعد معهم في مطار أتاتورك بإسطنبول، الأمر الذي حمل الجماهير على الاندفاع صوب المطار لتحريره من قبضة الانقلابيين.

الخطوات التي اتخذها أردوغان انعكست على تصرفات الوزراء وأعضاء البرلمان ورؤساء البلديات، الذين سارعوا بالوجود في أماكن عملهم ما حفز الجهاز الإداري للدولة على مقاومة الانقلاب في سابقة هي الأولى من نوعها، الأمر الذي منح الشعب دفعة إضافية للصمود في الشوارع رغم حدة القصف وشراسته في العاصمة أنقرة وعدد من مناطق إسطنبول.

وبمقارنة سريعة بين محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، ومثيلتها الناجحة في مصر (وضعا في الاعتبار السنوات التي قضاها أردوغان والعدالة والتنمية في حكم تركيا) يتضح لنا عقم الإجراءات والتدابير التي اتخذها الرئيس محمد مرسي في مواجهة الانقلاب الذي كان يتشكل على مدار أيام وربما أشهر أمام عينيه ولم يحرك ساكنا لمواجهته! حتى الوزراء وأعضاء مجلس الشورى اختفوا فجأة من المشهد وظنوا أن واجب الوقت حينها أن يكونوا مع “إخوانهم” في ميدان رابعة العدوية!!!  

ورغم أن أردوغان واجه قبل ذلك انقلابين الأول في ٢٠٠٧ والذي عرف باسم انقلاب المذكرة الإلكترونية والثاني في ١٧-٢٥ديسمبر والذي عرف بالانقلاب القضائي، إلا أن ما أبداه من صلابة في مواجهة محاولة انقلاب ليلة ١٥ يوليو/تموز منحه قيادة استثنائية في الوعي الجمعي للشعب التركي انعكس على مجمل ما قام به من تغييرات عميقة – سنعرض لها لاحقا – مهدت لميلاد الجمهورية التركية الثانية بقيادة رجب طيب أردوغان.

تغييرات عميقة طالت شكل وجوهر الدولة

كان التحول بنظام إدارة الدولة من النظام البرلماني إلى الرئاسي، حلمًا راود زعماء أتراك كبار كتورغوت أوزال، وسليمان ديميريل، ونجم الدين أربكان وغيرهم، لكنهم لم يستطيعوا قطع خطوة واحدة صوب تحقيق ذلك الحلم، الأمر ذاته امتد إلى أردوغان الذي رأى كسابقيه أن النظام البرلماني عمل على تكبيل إدارة الدولة وترهل جهازها البيروقراطي وضعفه بسبب تشتت المسؤولية وتبعثرها، إضافة إلى إمكانية العودة إلى نمط الحكومات الائتلافية في أي وقت ما يعني مزيدا من التدهور، وتهديدا حقيقيا لجميع المكتسبات التي حققتها تركيا منذ عام ٢٠٠٢م، لذا وضع أردوغان هدف التحول إلى النظام الرئاسي هدفا استراتيجيا، وقد منحته محاولة الانقلاب الفاشلة فرصة مواتية لتسريع الخطى صوب التحول إلى النظام الرئاسي، ومهدت الطريق لطرح التعديل الدستوري الأهم والأخطر، بعد تمريره في البرلمان بالتعاون مع حزب الحركة القومية.

إن ذكرى الخامس عشر من يوليو/تموز تمر هذا العام وقد تم تنصيب أردوغان أول رئيس للجمهورية التركية الثانية عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية المبكرة، ليبدأ معها النظام الرئاسي الذي يعد أردوغان بأنه سيسهم في دفع تركيا مراحل مهمة إلى الأمام.

نهاية عصور الانقلابات العسكرية

لقد وضعت محاولة الانقلاب الفاشلة نقطة النهاية في قصص الانقلاب المؤلمة التي شهدتها تركيا منذ أول انقلاب شهدته البلاد على رئيس الوزراء الراحل عدنان مندريس في مايو ١٩٦٠، لكن يجب أن نشير هنا إلى الجهد الهائل الذي بذله أردوغان منذ تسلمه الحكم عام ٢٠٠٢م من أجل تفكيك حزمة المواد الدستورية والقوانين التي كان يستند إليها العسكر لتبرير تدخلهم في الحياة السياسية، والإطاحة بالحكومات المنتخبة إذا لزم الأمر، نذكر هنا أهمها:

  • إعادة ترتيب أوضاع مجلس الأمن القومي بحيث لا يكون خاضعا لسلطة العسكر سواء على مستوى الأمانة العامة أو على مستوى التشكيل.
  • بسط سلطة المدنيين على مراقبة الإنفاق العسكري منذ وقت مبكر عام ٢٠٠٣ حيث تم إلغاء المادة ١٦٠ من الدستور التي كانت تنص على نيابة العسكر عن البرلمان في مراقبة ممتلكات الدولة (أي الميزانية المرصودة للجيش) بدعوى السرية التي تقتضيها مهام الدفاع الوطني، وتقرر أن تقوم محكمة الحسابات بمراجعة أوجه الإنفاق نيابة عن البرلمان في نطاق من السرية.
  • عام ٢٠١٠ تم إلغاء بروتوكول موقع بين وزارة الداخلية وهيئة الأركان عام ١٩٩٧ يتيح تدخل القوات المسلحة في المناسبات الاجتماعية (أي بالمنع والحظر) بإذن من المحافظ.
  • إلغاء دورات الأمن القومي التي كانت تدرس في المدارس الثانوية.
  • إلغاء المادة ١٢٥ من الدستور التي كانت تنص على أن “قرارات المجلس العسكري خارج الرقابة القضائية” وبموجب الإلغاء أصبحت كل قرارات المجلس الأعلى العسكري خاضعة لسلطة القضاء عدا ما يختص منها بقرارات التقاعد.
  • تضييق نطاق ولاية القضاء العسكري، بحيث تقرر محاكمة الجنود أمام المحاكم المدنية، وتم حظر محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية خارج أوقات الحرب.
  • إلغاء المواد الدستورية التي كانت تحول دون محاكمة قادة الانقلابات السابقة مما فتح المجال أمام محاكمة قادة انقلاب سبتمبر/أيلول ١٩٨٠، وانقلاب ٢٨ فبراير شباط ١٩٩٧.
  • تعديل بعض مواد الخدمة العسكرية التي كانت تقدم غطاء قانونيا للانقلابات العسكرية فعدلت المادة ٣٥ التي كانت تنص على أن من واجب الجيش “صيانة الجمهورية التركية وحمايتها” بحيث أصبحت مهمة القوات المسلحة الدفاع عن التهديدات القادمة من الخارج . كما عدلت المادة ٢ التي كانت تنص على أن ” العسكري مكلف بتعلم وتطبيق فنون الحرب من أجل حماية الوطن التركي والاستقلال والجمهورية”  إلى “تعلم وتطبيق فنون الحرب” فقط.
  • تعديل المواد التي كانت تعطي القوات المسلحة مكانة فوق المجتمع، فعدلت المادة التي كانت تحظر على أفراد القوات المسلحة الاشتغال بالسياسة لأنها “خارج وأعلى من أي أفكار سياسية” فتم إلغاء ذلك التعليل.

وقد منحت محاولة الانقلاب الفاشلة أردوغان الفرصة لمزيد من التعديلات والتدابير القانونية خاصة في إعادة تشكيل مجلس الشورى الأعلى لتصبح الغلبة فيه للمدنيين.

ومن هنا فإن إعادة تشكيل العلاقات المدنية العسكرية تعتبر واحدة من أهم إنجازات أردوغان والتي مهدت الطريق أمام الشعب للتصدي الرائع للانقلاب ليلة الخامس عشر من يوليو/تموز، والتي تحتاج إلى عناية خاصة من حيث الدراسة والتدبر خاصة في منطقتنا العربية التي لا تزال تعاني من الآثار الكارثية لتغول عسكري على المدني.

تصحيح مسار الجيش التركي

عقب محاولة الانقلاب الفاشلة لخص أردوغان سياسته المستقبلية تجاه القوات المسلحة بقوله: ” لا يوجد لدينا جيش غير الجيش التركي، وسنطهره من الخونة والانقلابيين، ولكن لن نسمح بإهانة أو إضعاف جيشنا”

من هنا فقد اعتمدت استراتيجية أردوغان تجاه القوات المسلحة على محورين:

الأول: تطهير الجيش من عناصر تنظيم فتح الله غولن والتي تمكنت عبر سنوات طويلة من التغلغل فيه رأسيا وأفقيا بحيث استولت على العديد من مفاصله المهمة، وقد استمرت سياسة التطهير حتى قبل أيام قليلة من رفع حالة الطوارئ، بحيث تم إخراج آلاف العسكريين ومن مختلف الرتب ممن ثبت انتماؤهم لتنظيم غولن الذي تصنفه الدولة تنظيما إرهابياً

الثاني: الاهتمام بتسليح الجيش وتدريبه وتطوير الصناعات الدفاعية التي قطعت فيها تركيا شوطا كبيرا ومازال لديها العديد من الخطط المستقبلية سواء على مستوى التصنيع أو التصدير.

كل هذا أدى إلى إعادة الحيوية للقوات المسلحة مكنتها من القيام بمهام ناجحة ضد التهديدات الإرهابية داخل تركيا وخارجها، وظهر ذلك واضحا في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون ضد تنظيمي داعش والعمال الكردستاني، حيث تمكنت القوات التركية من تنفيذ المهام الموكولة إليها بكفاءة ومهارة. ومكنت الدولة التركية من مواجهة الأخطار المتزايدة ضدها خارج حدود الأناضول، إضافة إلى إنشاء قواعد عسكرية تركية في عدد من النقاط الساخنة كقطر والصومال وجيبوتي.

كل هذا أثبت أن الآراء التي راهنت على ضعف القوات المسلحة بسبب عمليات التطهير التي بدأتها أنقرة في اليوم التالي مباشرة لفشل المحاولة الانقلابية، كانت خاطئة تماما، بل أثبتت عمليات التطهير والحد من تدخل الجيش في السياسة نجاعة كبيرة في رفع كفاءته وتمكينه من أداء مهامه.

وبالجملة فإنه وبعد عامين من محاولة الانقلاب الفاشلة، يمكننا القول إن أردوغان استطاع بمهارة وكفاءة تحويل أزمة الانقلاب إلى فرصة مواتية لخلق تركيا الجديدة، عكس كثير من التوقعات التي أكدت أن محاولة الانقلاب ستؤدي إلى ضعفه، وانكماش الدور التركي في المنطقة، وانكفاء تركيا على نفسها للملمة جراحها، فإذا بها تتحول بفعل التدابير المتخَذة إلى فاعل إقليمي أساسي لا يمكن تجاوزه، أو تجاهله.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه