“تركيا الجديدة” من الداخل

عودة ظهور الإسلام بقوة بعد هذا الفاصل الزمني، هو في حقيقة الأمر استجابة لحاجة وطنية عميقة تسكن وجدان الإنسان التركي

تقييم البعض لفوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية التى جرت مؤخرا، على أنه مجرد نجاح لحزب سياسي بأغلبية ستمكنه من الحكم للسنوات الخمس المقبلة مثله في ذلك مثل أى حزب سياسي آخر يفوز في أية انتخابات حرة نزيهة، هى رؤية يشوبها الكثير من القصور، وتنقصها النظرة الشاملة للمتغيرات والأحداث التى مرت بها التجربة السياسية في تركيا خلال قرنين من الزمان.

   انقلاب ديمقراطي

واقع الحال أن التجرية التركية في عمومها تختلف اختلافا بيناً عن غيرها من التجارب الأخرى التى شهدها العالم ، ذلك الاختلاف لخصه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في تقييمه لمجريات العملية الانتخابية التى شهدتها البلاد مؤخرا، وما أسفرت عنها من نتائج  بقوله : “نحن نقوم بانقلاب شعبي ديمقراطي ” ، وهي مقولة رغم بساطتها وقلة مفردات كلماتها فإنها كشفت في مضمونها مدى اختلاف الوضع داخل تركيا عن غيره في الدول الأخرى، وعن الخطط والقرارات التى ستتُخذ خلال الفترة المقبلة، وأفصحت من دون لبس ولا مواربة عن الكثير من المتغيرات التى ستطال جميع مناحي الحياة في تركيا، بما يمنحها بعدا جديدا مغايرا لما اعتادت عليه خلال الأعوام المئة الماضية ، ويجعل من المواطن التركي المستفيد الأول من حزمة الإصلاحات السياسية، والتغييرات الديمقراطية، والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية المزمع تدشينها مرحليا خلال الفترة المقبلة .

الحديث عن انقلاب ديمقراطي من جانب الرئيس والحزب الحاكم أو وصف نتائج الانتخابات الأخيرة بأنها ثورة شعبية ديمقراطية اكتملت أركانها بنتائج الانتخابات الاخيرة، يعنى ضمنيا أننا أمام تجربة ديمقراطية حقيقية جاءت مدعومة بالكامل من الداخل بإرادة شعبية كاملة؛ لم تسمح بوجود دعم خارجي لأي من القوى السياسية الداخلية المتنافسة فيها،  وأن حزب العدالة والتنمية الذى أتت به إلى سدة الحكم  تلك الإرادة الشعبية الحرة، بات هو المفوض رسميا للقيام بعملية التغيير الشاملة التى يرغب بها الشعب التركى، وإلقاء كل ماتم فرضه خلال العقود الماضية من قوانين ونظم سياسيه وتعليميه واقتصاديه واجتماعية وأنماط معيشة في سلة المهملات.

 استشراف المستقبل

وهنا تحضرني مقولة الكاتب العلماني التركي الشهير “يعقوب قدري”، عند حضوره احتفالية دينية أقيمت في إسطنبول عام 1921 تكريما لمن سقطوا في حرب الاستقلال: “لقد قام عامة الناس، الذين كنا دوما نحتقرهم كأشخاص جاهلين، بتلقين المثقفين في هذا البلد بعض الحقائق الإلهية، إحداها أن القلب أرقى من العقل، وأنه لايوجد طريق للخلاص من دون الصدق والايمان، وأنه لايجب أن يكون هناك فصل بين الدولة والمجتمع الديني”. وكأن الرجل، رغم علمانية توجهه كان يقرأ الغيب، ويستشرف مستقبل تركيا، من خلال رؤيته لعمق تجذر الإسلام بين صفوف القاعدة الشعبية التى تمثل حقيقة المجتمع التركي، رغم رواج الأفكار الوضعية ومظاهر الحداثة الأوربية التى جعلت ضباط الجيش يجهرون بشرب الخمور وأكل لحم الخنزير بفخر واعتزار كبيرين، أولئك الذين أوصوا بفصل الدين عن الدولة،  رواد النظام العلماني، الذين تم على أيديهم إلغاء الشريعة وسحب اعتراف الدولة بالإسلام، وحظر التعليم الديني، واعتماد القوانين المدنية الأوربية وقوانين العقوبات عوضا عن تطبيق الشريعة، وتأميم المؤسسات الوقفية، والقضاء على سلطة العلماء، وتغيير الرموز والممارسات الاجتماعية والثقافية مثل ارتداء الملابس والقبعات والتقويم والأبجدية، ومهاجمة الطربوش والقفطان والجبة؛ وحظر ارتداء الحجاب وبقية الملابس التقليدية التركية الإسلامية، وأخيرا إلغاء الإسلام من الدستور، ورفع الأذان باللغة التركية مع إصدار أوامر مشدده بتجريم الأذان بالعربية، وإغلاق مدارس تحفيظ القرآن، والتوقف عن بناء المساجد خصوصا في أنقرة .

تجذر القيم الإسلامية يعود الفضل فيه للدولة العثمانية التى عملت منذ تأسيسها وحتى إسقاطها على النهوض بالشخصية الإسلامية، والدفاع عن الإسلام وإبداعاته الثقافية وعاداته الاجتماعية، الأمر الذي أتاح له التغلغل بعمق في العقلية التركية والحياة والأدب من خلال التقاليد الموروثة عن الثقافة الإسلامية، والتى رغم ماطرأ عليها من تطوير وتحويل ما زالت تحتفظ في أساسها بكونها إسلامية.

لذا يخطئ من يعتقد أن تركيا، بعد قرن من التغريب، شهد تغيرات هائلة بدرجة كبيرة؛ أثرت على جميع مناحي الحياة بها، لأن الحقيقة التى بدأت تطفو على السطح مجددا من خلال فوز حزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان ، تؤكد أن الجذور الاسلامية بعاداتها وثقافتها العميقة ظلت حية في وجدان الأتراك، ولا تزال تمثل الهوية الأساسية للمجتمع التركي من دون منازع، والذى بات يرغب بشدة في استعادتها، وإعادة لُحمة التواصل مع جذوره التاريخية وموروثاته الثقافية وعاداته الاجتماعية، معتبرا أن الفترة الماضية التى مر بها هى مجرد فاصل زمني طويل بعض الشيء تم استقطاعه من الحقبة التاريخية الحديثة للدولة التركية، وأن المرحلة المقبلة هى مرحلة استئناف للدور الطليعي الذى كانت تضطلع به تركيا من قبل .

عقبات التحول

عودة ظهور الإسلام بقوة بعد هذا الفاصل الزمني، هو في حقيقة الامر استجابة لحاجة وطنية عميقة تسكن وجدان الإنسان التركي ، الأمر الذى أدركه أردوغان وحزبه مبكراً، ولذا عمل منذ وصوله إلى السُلطة على تحقيقه  بصبر وروية، من خلال  حزمة الإصلاحات الديمقراطية؛ والتعديلات الدستورية والقانونية، التى أجريت على مدى الستة عشر عاماً الماضية،  واضعة الأساس المتين والقاعدة الصلبة لضمان إجراء باقي التغييرات المرجوة في الحياة السياسية التركية بما يتوافق والإرادة الشعبية التركية بسهولة وسلاسة، وتحويل فكر الدولة التركية من الفكر القومي الضيق إلى آفاق أكثر اتساعا ورحابة تشمل كافة الأعراق والقوميات التى تعيش داخل حدودها الجغرافية .

كانت أولى هذه العقبات وضعية المؤسسة العسكرية، التي تَعتَبرُ نفسها مؤسِّسة الجمهورية التركية الحديثة والمؤتمنة على مستقبلها والحفاظ على علمانيتها، وقد نص دستور 1982 الذي وضعه العسكر؛ في المادة ” 35 ” منه على أن “حماية مبادئ الجمهورية ” من مهام وصلاحيات المؤسسة، وقد كانت هذه المادة هي “المسوّغ الدستوري” للانقلابات العسكرية الأربعة التي نفذها الجيش ضد الحكومات المنتخبة، منذ قيام الجمهورية.

مثلت هذه الوصاية العسكرية على الحياة السياسية المدنية أبرز العقبات التى تحول دون تقدم الدولة التركية بشكل عام والعدالة والتنمية بشكل خاص، ولذلك عمل الحزب بتدرج وهدوء لتقليم أظافر المؤسسة العسكرية؛ وكف يدها عن التدخل في الشؤون  السياسية، مستفيدا في هذا الأمر من جملة التغييرات القانونية والإصلاحات الدستورية التى طالب بها الاتحاد الأوربي شرطا لقبول مناقشة عضوية تركيا به، إذ عدّل الحزب من تركيبة وصلاحيات مجلس الأمن القومي – ذراع المؤسسة العسكرية الأبرز في الحياة السياسية – ليصبح مؤسسة ذات أغلبية مدنية، وتتحول قراراته إلى توصيات غير إلزامية للحكومة، كما عدَّل المادة “35” من الدستور لتنحصر صلاحيات المؤسسة العسكرية فقط في حماية البلاد من الأخطار الخارجية، وأخيرًا عدَّل بنية مجلس الشورى العسكري الأعلى المختص بقرارات الترقيات والإحالة للتقاعد في الجيش، والذى كان يقوم بإخراج الكثير من الضباط من الخدمة، وإحالتهم إلى التقاعد بتهمة وجود ميول دينية لديهم، ليصبح أيضًا ذا أغلبية مدنية .

استعادة الهوية

في الوقت نفسه الذى بدأ فيه العمل على ملف الاقتصاد، عبر تخطيط وتنفيذ الكثير من المشروعات التنموية والخدمية، التي بفضلها تحولت تركيا من وضعها كبلد فاشل اقتصاديا يعتمد على القروض والمعونات من الدول الكبرى عند بداية الألفية الثانية، إلى بلد يدرج ضمن أقوى الاقتصادات العشرين في العالم، الأمر الذى أتاح توسيع حجم الطبقة المتوسطة بصورة هائلة ؛ واستيعابها لعدد لايستهان به من الطبقات الأدنى، وأفاد ملايين الأتراك من الفقراء، وتحولت حياة المواطنين اليومية إلى الأفضل نتيجة المشروعات الكبرى التي نفذتها حكومة حزب العدالة والتنمية، من مدارس ومستشفيات ومصانع، إلى طرق وجسور ومختلف  مشروعات البنية التحتية الأخرى.

أما المتدينون من الأتراك، الذين طالما شعروا بالتهميش من جانب النخب العلمانية المسيطرة على مجريات الأمور في البلاد، فقد زاد نفوذهم، وشعورهم بأنهم استعادوا دولتهم من جديد، في ظل تنامي المظاهر الإسلامية المحيطة بهم سواء في تعظيم الشعائر والاحتفالات الدينية ومشاركة كافة المسؤولين بالدولة فيها، أو في السماح بعودة فصول تحفيظ القرآن، والتوسع في زيادة عدد المدارس الدينية، وإزالة العقبات أمام دخول خريجيها للكليات العلمية والمدنية، أو في زيادة حجم تواجد الحجاب في الشارع، واهتمام وسائل الإعلام بتلك الشريحة التى ظلت مهمشة لقرن من الزمان، حيث ظهر الكثير من المطبوعات والبرامج المتلفزة ذات التوجه الإسلامي سواء تلك التوعوية أو التى تُرشد المحجبات لتتبع أبرز خطوط الموضة بما يتناسب وحجابهن.

تجربة رائدة

يرفض قادة حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان؛ وصف حزبهم بالإسلامي؛ ويؤكدون دوما أن أردوغان رئيس لكل الأتراك، وان العدالة والتنمية حزب كل الشعب التركي، وأن تركيا دولة تضم الجميع من دون استثناء ولا تهميش لأحد، وذلك في إطار سعيهم لطمـأنة كافة الإثنيات والديانات التى تمثل مكونات الشعب التركي، خصوصا تلك التي عانت من الاضطهاد والتحجيم والإبعاد خلال مرحلة الدولة العلمانية.

لتصبح تجربة حزب العدالة والتنمية بحق تجربة رائدة في قدرتها على تغيير وجه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكما قال الرئيس التركي نفسه: “وكأننا نؤسس لدولة جديدة”.  

هي بالفعل دولة جديدة ترتكز على الإرادة الشعبية الكاملة، التي ساندتها ومنحتها القدرة على الصمود والتحدى والنجاح في الوصول لمستوى من التنمية والتقدم في كافة المجالات، خلال فترة زمنية وجيزة، عبر اتباع سياسة استثمارية راسخة، يقوم فيها كل من القطاع الخاص، وقطاع الأعمال بدور كبير تحت رعاية وإشراف الدولة، وهو ما انعكس بقوة على حياة المواطنين الذين استشعروا حجم التقدم الذي أصبحت عليه دولتهم، ومدى الرخاء الذين باتوا يعيشون فيه، ناهيك عن الخروج من هيمنة الدول العظمى التي اعتادت تأسيس النخب السياسية الحاكمة، وإدارة شؤون العالم الاسلامي على مدار المئة عام الماضية، الأمر الذى يجعلها  النموذج الاكثر مُلاءمة للدول الإسلامية التي لاتزال ترزح تحت حكم أنظمة ديكتاتوريه تدين بالولاء للقوى العالمية التي تحكم وتتحكم فيها بطرق متباينه.  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه