تركيا الجديدة.. تحديات الداخل والخارج

وظهر في تمويلات ضخمة قدرها البعض بمبلغ 12 مليار دولار وردت من السعودية والإمارات لدعم خطة التخلص من أردوغان.

دشنت نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة في تركيا عصرا جديدا، وإن شئنا الدقة “تركيا جديدة”على أنقاض تركيا الأتاتوركية القديمة، بما يحمله هذا الوصف من تغيرات كبيرة على المستويات السياسية والاجتماعية والإقتصادية والثقافية إلخ.

كان ظهور أحد الأتراك مرتديا الزي العثماني والتاج السلجوقي في إحدى اللجان الانتخابية نموذجا للحنين إلى دولة قوية صاحبة مشروع، وقد وجد هذا المواطن وأمثاله بغيتهم في الرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية”، الذي يحمل مشروعا حضاريا مستمدا من ثقافة وهوية الشعب التركي الأصلية، وليست تلك الوافدة التي فرضتها عليه الحركة الكمالية على مدار عدة عقود، وسلخته بها من هويته، وقد أيد هذا التوجه بوضوح أكثر من نصف الشعب التركي بينما توزع الباقي على خيارات متنوعة لا رابط بينها.

مواجهة مفتوحة

كانت المعركة التي خاضها الرئيس أردوغان وحزبة بالغة الصعوبة، لم تقتصر على مواجهة منافسيه التقليديين داخل تركيا، بل كانت مواجهة مفتوحة مع قوى إقليمية ودولية لم تخف عداءها له، ودعمها الكامل لمنافسيه بغية الخلاص منه، ظهر ذلك جليا في تصريحات معادية لساسة غربيين ناهيك عن قادة الثورة المضادة في المنطقة، وظهر أيضا في تعليقات وتحليلات صحف وقنوات عالمية كبرى، وظهر في تمويلات ضخمة قدرها البعض بمبلغ 12 مليار دولار وردت من السعودية والإمارات لدعم خطة التخلص من أردوغان، وقد ظهر أثر تلك التدخلات القوية في التراجع الكبير لليرة التركية قبيل الانتخابات بهدف التاثير على الناخب التركي الذي لمس الأثر السلبي لذلك التراجع على أسعار السلع والخدمات الضرورية، والتي سجلت ارتفاعات ملحوظة فعلا.

كانت غرفة الثورة المضادة واثقة أن خطتها التآمرية ستنجح في الإطاحة بأردوغان وحزبه فعلا، وهذا ربما يفسر تهديدات عبد الفتاح السيسي لمعارضيه في الخارج بأنهم سيحاسبون جميعا، إذ كان يستبطن تلك النتيجة المتوخاة والتي بناء عليها سيتمكن من تسلم هؤلاء المعارضين من الحكم الجديد الذي سيخلف أردوغان، وربما يكون بعضهم قد قطع له عهدا بذلك، خاصة أنهم في تصريحاتهم العلنية تعهدوا بطرد المهاجرين العرب، ومن الواضح أن هذه الخطة التآمرية كانت معلومة للأذرع الإعلامية لقادة الثورة المضادة، ولذا فلم يكن مفاجئا رد فعلهم الغاضب جدا بعد ظهور النتيجة التي كانوا ينتظرون عكسها.

انتصار للمقاومة

لم تكن نتائج الانتخابات التركية إذن مجرد انتصارا لفريق أو هزيمة لآخر داخل تركيا، بل كانت أيضا انتصارا لتيار مقاوم للهيمنة الغربية والإسرائيلية وانكسارا لحلف الثورات المضادة، والتفريط والخيانة، أو ما يسمى حلف إيفانكا ( نسبة لابنة الرئيس الأمريكي ترمب) وهو الحلف الذي يضم إلى جانب الولايات المتحدة وإسرائيل كلا من مصر( السيسي) والسعودية (بن سلمان) والإمارات (ابن زايد)، وبعض القطع الصغيرة الأخرى، تلقى هذا الحلف صفعة من هذه النتائج غير المتوقعة، وهذا الحضور غير المسبوق(88% محليا أو عالميا)، وفي مواجهة هذه الصدمة اضطرت الإدارة الأمريكية لإعلان قبولها للنتائج عبر تصريح رسمي، وتبعها ملك السعودية وحكام الإمارات والبحرين، إلا أن المؤامرة لن تتوقف، ولكنها ستواجه هذه المرة قيادة تركية أشد صلابة وشعبا تركيا أشد رفضا لها.

إلى نادي الكبار

تركيا الجديدة ستظهر ملامحها الداخلية والخارجية تباعا، فالهجمة الشرسة ضد الاقتصاد التركي فشلت في تحقيق هدفها، والرئيس أردوغان جدد تعهده بالوصول بتركيا إلى نادي أكبر عشر اقتصادات عالمية (هي الآن في المركز 16ضمن نادي العشرين الكبار)، ويراهن أردوغان على الوصول إلى عام 2023 وهو الموعد الذي تنتهي فيها التزامات اتفاقية لوزان التي وقعتها تركيا مع الحلفاء عقب الحرب العالمية الأولى، ويعتبرالرئيس أردوغان  ذلك العام عام التحوّل التنموي والسياسي. وفي تركيا الجديدة التي هزمت انقلابا عسكريا منتصف يوليو/تموز 2016 انتقلت البلاد بعد هذه الانتخابات إلى النظام الرئاسي الكامل بعد عقود من النظام البرلماني الذي لم يحقق لها استقرارا سياسيا، بسبب تفتت الأصوات بين الأحزاب بما دفعها دوما لتشكيل حكومات ائتلافية ما تلبث أن تنهار، ويسمح النظام الجديد بالتحالفات الانتخابية التي تمكن الأحزاب الصغيرة من المرور إلى البرلمان متجاوزة العتبات القانونية.
وفي تركيا الحديثة ستتراجع صور أتاتورك تدريجيا وتلقائيا وبدون قرارات رسمية، بعد أن كانت إلزامية في المكاتب والدواوين الحكومية، وعمليا سيختفي اسم أتاتورك من مطارها الرئيسي بعد التخلص من هذا المطار وتحويله إلى حديقة الشعب.

التمسك بالهوية

الوجه الحضاري الإسلامي لتركيا سيكون أكثر بروزا، وما يجدر ذكره هنا أن الدفاع عن المساجد بما تعنيه من تمسك بالهوية كان حاضرا بقوة في الحملة الانتخابية إذ ردد بعض الأتراك عبارة “لن نسمح بتحويل مساجدنا إلى اسطبلات للخيل مجددا) في إشارة إلى ما تم عقب سيطرة الكماليين على الحكم بعد سقوط الخلافة الإسلامية عام 1924، وهو ما أكد عليه أردوغان في خطاب النصر عقب ظهور النتيجة قائلا “أصوات الأذان ستصدح من كل مساجد تركيا”، وما يجدر ذكره أن المساجد كان لها دور مهم في مقاومة محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف يوليو 2016 حيث رفعت عبر مآذنها التكبيرات المتتالية حتى تم إعلان دحر الانقلاب.

تركيا الجديدة ستكون أكثر فاعلية على الصعيد الإقليمي والدولي بعد هذا التفويض الشعبي لرئيسها أردوغان، والذي يتمتع دستوريا بصلاحيات أوسع في المجال الدولي أيضا، ورغم أنها لن تلهث مجددا خلف سراب عضوية الاتحاد الأوربي الذي استغله أردوغان من قبل لتمرير إصلاحاته السياسية وإعادة رسم دور المؤسسة العسكرية، إلا أن تركيا ستسعى على الأرجح للحصول على عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي تمثيلا للعالم الإسلامي، وعلى الصعيد الإقليمي من المتوقع أن تعيد تركيا الزخم للمقاومة الفلسطينية في مواجهة ضغوط أمريكية وعربية تصاعدت بشدة مؤخرا على القوى الفلسطينية للقبول بما يسمى بصفقة القرن، وستشعر المقاومة الفلسطينيية ببعض الدعم المعنوي المهم من وجود أردوغان وحزبه على رأس السلطة في تركيا، بالإضافة إلى دعم جديد للمقاومة الفلسطينيية والحق الفلسطيني من ماليزيا التي أعادت مهاتير محمد وتحالفه الوطني الإسلامي للحكم مجددا بعد الإطاحة بأحد حلفاء آل سعود.

ستسعى تركيا الجديدة لتوسيع المنطقة الآمنة على حدودها مع سوريا، وستكثف حربها ضد الجماعات الانفصالية الكردية، وسيكون لها دور أكبر في تسوية الوضع في سوريا لصالح الشعب السوري ومطالبه المشروعة في الحرية والديمقراطية والتنمية، وبشكل عام سيكون لتركيا الجديدة دور إقليمي أكبر، ولا نبالغ إذا قلنا أنها ستكون القوة الإقليمية الأكثر تأثيرا في قضايا المنطقة، وهو ما سيدفع كلا من روسيا وإيران لتمتين العلاقة معها، وقد تسعى لتشكيل تحالف إقليمي أكثر تماسكا وأكثر حيوية في مواجهة حلف إيفانكا (السابق الإشارة إلى مكوناته)، كما يتوقع أن تلعب تركيا دورا أنشط لدعم دول الربيع العربي وتطلعات شعوبه في الحرية والديمقراطية بعد تجاربها المريرة مع الانقلابات العسكرية.

تركيا ولدت من جديد بعد هذه الانتخابات، وبعد تطبيق النظام الرئاسي الكامل، وبعد هذا التفويض الشعبي الكبير لأردوغان وحزبه، ولكن التهديدات ضدها لم ولن تنتهي، وإذا كانت قيادتها تدرك ذلك جيدا، وتعد للأمر عدته فعلى أصدقائها إدراك ذلك أيضا وتفويت الفرص على تلك المؤامرات بقدر المستطاع.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه