تاريخ التعفيش

أصل كلمة تعفيش من “عَفَشَ” أيّ جمع.. عَفَشَ الشيء جمعه.. وقد طوّر السوريون المصطلح في بداية الثورة فصار يعني “السّرقة”.. بدأ ذلك بإطلاقه على سرقة بيوت حمص بعد نزوح أهلها وظهور سوق “السّنة” الذي تباع فيه الأغراض المسروقة.

لم يكن مفهوم التعفيش غريباً على الشّعب السّوري فقد عانى منه منذ بداية حكم العسكر للبلاد واستلام حافظ الأسد للسلطة.. “فالمعفش الأوّل” جمع أموال الدّولة كلّها وضخها في جيوب عائلته، وأطلق أيدي أقاربه ومخابراته لتسطو على رزق النّاس بكلّ الوسائل.

وخلال أعوام قليلة صار الناس يقفون في طوابير لأجل الحصول على “المازوت” للتدفئة وارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية وظهرت بطاقات التموين وصارت سوريا كوكباً آخر أنكره السوريون وحاولوا التحرك ضدّه فأخرستهم مجازر الثمانينيات.

وجدير بالذكر القول إنّ أوّل تدريب على التعفيش مارسه الجيش العربي السّوري كان إثر دخوله إلى لبنان لوقف الحرب الأهلية في النّصف الثاني من سبعينيات القرن المنصرم ضمن ما سُمي وقتها بقوات الردع العربية، حيث أثرى ضباط الجيش من سرقة كلّ ما يقع تحت أيديهم بدءاً بمحلات الذهب وصولاً إلى تفكيك صنابير المياه والسيراميك من البيوت.

التعفيش بقوة السلطة لم يقتصر على عائلة الأسد والمخابرات بل دار في فلكه كلُّ من له علاقة بهم من أذيالهم، واستطاعوا تكوين ثروة من وظائفهم في الدّولة، البعض كان يعتبر ذلك “شطارة” ويستاء من الاسم الحقيقي سواء كان سرقة أو رشوة أو سطواً بقوة السّلاح أو النّفوذ أو المنصب.

لكنّ الطريف في الأمر هو التّطور التّاريخي للتعفيش على يدي وزير الدّفاع السّوري مصطفى طلاس.

التعفيش الأدبي:

قد لا يندرج ما فعله مصطفى طلاس تحت مسمى التعفيش الأدبي إلا إذا ثبت بالدليل القاطع أنّ بعض القصائد أو الكتب التي نشرها أثناء حياته كانت من تأليفه. فالمعروف أنّ العماد طلاس كان ينتقي خريجي الجامعات من كلّ الاختصاصات ليقضوا فترة خدمتهم العسكرية تحت أمرته، ليس كلَّ خريج بل النّخبة الذين يستطيعون تأليف كتب له لذا؛ كتب العماد في كلِّ المجالات حتّى فن تنسيق الزهور والطبخ.

لم يكن طلاس يملك المقدرة الشّعرية والحضور الطاغي الذي امتلكه نزار قباني في عصره لكنّه كان يأمل ويتمنّى لو كان مثل نزار بدليل قصائده الغزلية وأناقته المفرطة خارج نطاق الجيش. من يسمع طلاس في أمسية شعرية ويسمع خطاباته أمام الجيش يدرك أنّه أمام شخص يعاني من انفصام حاد سببه الفرق بين الحلم والواقع. لقد اختار أن يكون المعفش الثاني في الدّولة!

وعلى خطاه سار أكبر شعراء عصره “أدونيس” الذي ينتظر الحصول على نوبل منذ سنوات علّه لا يضطر بعدها لتعفيش كتب الآخرين وقصائدهم كما أثبت ذلك بعض النقاد المتابعين لتجربته الشّعرية ونظرياته.

التعفيش الفني:

يتراوح التعفيش الفني بين مفهومي السّرقة والاقتباس.. فبعض الملحنين الكبار مثل فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب اقتبسوا جملاً موسيقية واستخدموها في ألحانهم.. لكنّ فريد الأطرش أشار إلى ذلك في أكثر من حديث إذاعي وصرّح بالجمل التي اقتبسها وأشار إلى اللحن الأصلي، أمّا عبد الوهاب فقد اقتبس هو أيضاً من ألحان فريد ولم يقلّل ذلك من عبقرية الاثنين ولم يدل على ضعف وعجز فكلاهما كان مبدعاً حقيقياً..

أمّا الرحابنة فقد أخذوا ألحاناً كاملة من الموسيقى الغربية غنتها فيروز ولم يشر الرحابنة إلى الأصل بل كانت تذاع الأغنية ويعلن عنها على أنّها من كلمات وألحان الأخوين رحباني..

أشهر تلك الأغاني أغنية “كانوا يا حبيبي” المأخوذة عن الموسيقى الوطنية للجيش الأحمر الروسي أيام الاتحاد السوفيتي وقد عزفها الموسيقار الهولندي “ريو”.

وأغنية “يا أنا يا أنا” المأخوذة عن السّمفونية الأربعين لموزارت.

واختتم زياد الرحباني ابن فيروز مسيرة أمّه الفنية بأغنية “لمين” التي ظهرت منذ فترة قصيرة بعد صمت سبع سنوات على أنّها من ألحانه واتّضح أنّها “معفشة” من لحن فرنسي للمطرب “جيلبرت بيكو” بالكامل مع الكلمات! سؤال يطرح نفسه:

ما الذي أراده زياد “المبدع في التعفيش” من عودة أمّه إلى الغناء بهذه الطريقة البائسة والهشة والتي أنزلت أسهم معجبيها وأثارت ضجة سلبية حولها؟

هذا لا يعني أنّ الغرب لم يأخذ من الألحان العربية فقد أخذ مطرب فرنسي “فرانسو ميشيل” لحن أغنية “حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي” للرحابنة وغناه بالفرنسية.. وأخذت فرقة غربية لحن أغنية “خسارة خسارة” لعبد الحليم حافظ وغنتها بكلمات إباحية أساءت فيها للحن الأصلي.

كما أخذوا الكثير من الألحان حديثاً منها لعمر دياب ونانسي عجرم وغيرهما.

الفن السابع:

لا يقتصر التعفيش الفني على الموسيقى بل لحقت السينما به أيضاً فقد مثلت سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة فيلماً بعنوان “شيء في حياتي” من بطولة إيهاب نافع الفيلم مأخوذ بحذافيره عن الفيلم الإنجليزي “مواجهة مختصرة” بطولة سيليا جونسون والممثل البريطاني تريفور هوارد.. أنتج الفيلم عام  1946 ..

اللافت للنظر ليس فقط عدم الإشارة إلى أنّ الفيلم “مقتبس” بل كتب عليه “سيناريو وحوار يوسف السباعي” الروائي والكاتب المعروف الذي رافق السادات إلى إسرائيل واغتيل بعدها.

وقد ثارت مؤخراً ضجة كبيرة حول رواية “الفيل الأزرق” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، واتّهم كاتبها بأنّه سرق الفكرة من فيلم أمريكي وذلك بعد تحويل الرواية إلى فيلم قال النقاد إنّ مشاهد كاملة قد أخذت كما هي من الفيلم الأمريكي.. وقد دافع الروائي أحمد مراد عن نفسه بأنّه قد أخذ المعلومات من قصة جاءت في “تاريخ الجبرتي” وحدد الصفحات التي أخذ منها المعلومات.. أمّا المشهدية في الفيلم فتعود إلى احترافه العمل السّينمائي وهو الاختصاص الذي درسه أحمد مراد.

في النّهاية لا يمكننا أن نطلق لفظ “تعفيش” بمعنى السّرقة على كلّ عمل فني أو أدبي قد تأثر بآخر أو تلاقت فكرته مع فكرة كتبها شخص آخر كما لا يمكننا أن نطلق التّسمية على اقتباس جملة أو فكرة فهي لا تلغي الإبداع الحقيقي للمؤلف أو الملحن.. وذلك يختلف كلياً عن أخذ النّص كاملاً أو اللحن كاملاً ونسبه لأنفسنا.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه