بين كافكا وطه حسين

 

اثنان كنت أجد صعوبة في دخول عالمهما، طه حسين وكافكا. لا أقصد طه حسين الروائي والمترجم فقد قرأت روايته الأيام وكنت في العاشرة من عمري وكانت أوّل رواية أقرؤها ومن خلالها انفتح لي أفق الرواية بلا حدود.. ما قصدته كتابات طه حسين النقدية.

في مرحلة لاحقة قرأت كتب طه حسين بشغف كبير لكنّي لم أستطع قراءة كافكا!

يعتبر كافكا المؤسس لنوع من الكتابة الكابوسية _إن صح التعبير_ وعلى الرغم من تصنيف البعض لكتاباته على أنّها واقعية عجائبية إلا أنّي لم أستطع قراءة أيّ عمل له في بداية علاقتي بالكتب.

ولأنّ محبي كافكا ما يزالون يقدّسون نصوصه ويمجدون ريادته لهذا النوع من الأدب، ويتخذونه مثالاً يحتذى، قرّرت وأنا بكامل قواي العقلية أن أقرأ كافكا منذ عام فقط!

تأخرت كثيراً! هكذا خيّل لي، ولمت نفسي على هذا التقصير والموقف غير المبرر. وكان اختياري أن أقرأ “المسخ” أولاً، ثمّ المحاكمة فالقلعة، إلى نهاية الأعمال المترجمة.

توقفت أكثر من مرّة عن متابعة القراءة، فقد كانت تسبب لي ضيقاً في الصدر وكآبة وانزعاجاً رسّخا يقيني أنّ موقفي السابق ومقاطعتي لأعمال كافكا لم يكن من دون سبب فما قرأته من دراسات عن حياته وأعماله أقام حاجزاً نفسياً بيني وبين أعماله، قبل أن أجد تفسيراً منطقياً لذلك.

الغريب أنّ المبرر النقدي الذي رسخ في عقلي التقى بالمصادفة مع رأي الدكتور طه حسين.

طه حسين وكافكا:

كان شيئاً رائعاً أن أحصل على تسجيل مرئي لحوار أجراه التلفزيون المصري في برنامج “نجمك المفضل” الذي تقدمه الإعلامية ليلى رستم والتي زارت عميد الأدب العربي طه حسين في منزله برفقة كوكبة من نجوم الأدب في ذلك الوقت “عبد الرحمن الشرقاوي، يوسف السباعي، محمود أمين العالم، أنيس منصور، نجيب محفوظ، أمين يوسف غراب، ثروت أباظة، كامل الزهيري، عبد الرحمن بدوي، عبد الرحمن صدقي”.

لم يؤرخ الفيديو لكنّه بالتأكيد في الستينات من القرن الماضي. كان طه حسين قد طلب من ليلى رستم أن تكتفي بخمسة أشخاص يوجهون إليه الأسئلة لكنّها أتت برفقة عشرة أشخاص. كان سؤال نجيب محفوظ حول القصة الفلسفية.. طلب طه حسين مثالاً على القصة الفلسفية فقال نجيب محفوظ: “مثل قصص كافكا، مثلاً القلعة، والمحكمة”. علّق طه حسين بقوله:

(كافكا كان متشائماً، كما كان أبو العلاء المعري متشائماً، أبو العلاء الشاعر الفيلسوف الوحيد في اللغة العربية؛ لأنّه لا يأتي بالحِكم كما كان يأتي بها أبو العتاهية وإنّما يفلسف الأشياء ويقول رأيه في حياة النّاس، فهو ينظر إلى الحياة نظرة فلسفية ويصورها ناقداً لها ومصححاً لها في كثير من الأحيان. إنّما القصة الفلسفية التي أوافقك على إنكارها هي بعض القصص التي تظهر الآن وخصوصاً في فرنسا مثل قصص كامي وناتالي ساروت، وهذا نوع من الإفلاس؛ لأنّ الأدب الفرنسي الآن معرضٌ لأزمة، فهذا نوع من الثرثرة ومن غير فائدة.

إذا قرأنا قصص كاميه فهي نوع من الفلسفة لا تدل على أدب بمقدار ما تدل على أنّ صاحبها لا يدري ماذا يقول).

إذن طه حسين نفى أن يكون كافكا فيلسوفاً أو أن تكون قصصه فلسفية، ووصفه بأنّه شخص متشائم. وذهب طه حسين إلى أبعد من ذلك فاعتبر القصة _التي يراها الآخرون فلسفية_ مجرد ثرثرة!

ما بين الثرثرة والشكّ

لا شكّ أنّ قصص كافكا المغرقة في سوداويتها مازالت حتّى يومنا هذا محط إعجاب المثقفين وقبلة المجرّبين في الأدب، يقفون حيالها موقف المبهور الذي رأى شيئاً معجزاً فأراد أن يتشبه به ويرتقي ليقف بجانبه، وهذا ما جعل كتابات كافكا رائدة في مجال القصة الفلسفية كما أطلق عليها نجيب محفوظ، والثرثرة كما سمّاها طه حسين.

قصص كافكا الرائدة لم تكن لتأخذ تلك المكانة لو أنّ دارساً عربياً تناولها من وجهة نظر طه حسين بشكلٍ جدي وبحث فيها وعرّى ضعفها وهشاشتها. فقد أخذت دورها الريادي وأثرت في الثقافة العربية بحكم ظروفها الخاصة وظروف كاتبها والزمن الذي كتبت فيه وقبل كلّ ذلك بسبب شعور المثقفين العرب بالدونية تجاه كلّ ما هو غربي مترجم. هذا الشعور يتأتّى من الجهل فالجاهل يرى كلّ ما حوله عظيماً، ولا يريد أن يظهر بثوب الجاهل فيمتدح العمل ويبدي انبهاره به كي يسير مع التيار الممجد للمنتج الغربي، من هنا يأخذ معظم الكتّاب الأجانب قيمتهم عند المثقف والقارئ العربي.

لم يكن طه حسين من هؤلاء؛ لأنّه لم يشعر بالدّونية والنّقص تجاه الغرب الذي غزاه في عقر داره بل كان مبصراً وصاحب بصيرة نيرة استطاع أن يقرأ بفهم ويبدي رأيه من دون أيّ إحساس بالحرج. فهو لا يرى في الغرب أيّ عظمة وتفوق يجعله صغيراً أمامه، فالمحاكمة التي كتبها كافكا لم تكن ذات عمق فلسفي كما بدت للمثقفين العرب بل هي مجرد ثرثرة!

ثرثرة تجاوزها نجيب محفوظ بمسافات كبيرة فقد كتب من الواقع روايات بسيطة الأسلوب متحركة داخل إطار زمني واقعي لكنّها تحمل بعدها العبثي والسوداوي أحياناً كما في رواية “ثرثرة فوق النيل” لم تكن الثرثرة في الرواية عبثية فقط بل رصد محفوظ من خلال شخصياتها الانهيار الأخلاقي لعصر الثورة وتداعيات الواقع المر الذي أدّى إلى فشل شخصياته في مواجهة الواقع. وأدّى إلى غضب مجلس قيادة الثورة عليه.

على المستوى الواقعي لم تكن الشخصيات المثقفة على تلك الصورة التي رصدها نجيب محفوظ في عدّة روايات فقد كان هناك على ضفة الواقع رجالٌ مفكرون أمثال الروائي نفسه وأستاذه طه حسين الذي أحدث ثورة في التّفكير في ذلك العصر خاصة في كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي اعتمد على مبدأ الشك كما فعل ديكارت _وكان طه حسين معجباً بمذهبه_ وهدم كلّ النّظريات التي تنسب الشعر الجاهلي إلى ذلك العصر جملة وتفصيلاً، وأثار حفيظة العلماء ومشايخ الأزهر، وحرّك المياه الراكدة في الساحة الثقافية آنذاك.

وكما قال طه حسين “الإنسان يخطئ ويصيب، وحين يعرف أنّه أخطأ يجب عليه أن يعترف بذلك.

وهناك فرق بين الخطأ والخطيئة، كما يوجد فرق بين الشكّ والثرثرة! وبين عظمة كاتب بنيت على فكر متنور وآخر على قلعة من رمال!

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه